من عاداتي التي دأبت عليها منذ نعومة أظافري وبداية ولعي بالكتابة تدوين ما يجول بخاطري مهما كان بسيطا أو سطحيا أو غير ذي بال ، وتسجيل “يومياتي” أو أهم ما يحصل فيها على صفحات الكناشات التي كنت أقتنيها من مصروف جيبي الخاص لهذا الغرض ،فأملؤها بما أراه صالحا للحفظ يوميا تقريبا قبل أن أخفيها -الكناشات – في مكان لا يعلم غير الله وأنا في مكان سري.
وكنت أرجع إليها كلما شعرت بالضيق أو اليأس أو انسداد الآفاق أمامي واستحالة الوصول إلى حل لمشكلتي حينها -كما كنت أرى في مثل هذه اللحظات العصيبة -، فأستل كنشا منها (حسب المزاج والرغبة أو الفترة الزمنية التي أروم أن أرتمي في أحضانها هربا من هذا الواقع المرير) وأشرع في الغوص في فترات حياتي وما شهدته من أطوار وأحداث مفرحة حينا ومحزنة حينا آخر وعادية في أغلب الأحيان مثل سائر البشر حينا ثالثا….
وكنت أعيش تلك الفترات مجددا وأستحضرها وكأنها تحصل لي الآن، غير أني كنت أنقد طرق تعاملي معها وسبل تجاوزي لهذه الحوادث وأمني النفس بأخرى كانت تكون أسلم وأوفر حظا للسلامة والنجاة وغيرها من الحلول الآنية التي اكتسبتها بالتجربة والخبرة والعلم واستخلاص الدروس من الماضي وغيرها…..
ومن بين تلك الذكريات التي وقفت عندها عشرات المرات ولم أشف غليلي منها، ولم أفهم كيفية تعاملي معها وقتها بما أني لازلت أجني تبعاتها ومخلفاتها إلى اليوم نظير غبائي وتهوري وتسرعي وتمردي على كل خلق وأخلاق ودين وغيرها، تلك الحادثة التي دونتها على صفحة من صفحات هذا الكنش وكان عمري حينها اثنتي عشرة سنة وبعض الأشهر والأيام حيث كتبت حرفيا :
” أردت أن استلقي قليلا على فراشي هذا اليوم قبل أن أخرج للعب كرة القدم مع أقراني في الحي -كرة ورقية صنعناها من صفحات الجرائد والمجلات ومسكناها بخيوط كثيرة لتحافظ على وحدتها وشكلها – وكنت منتعلا حذائي الرياضي الممزق من كل الجوانب وجواربي المهترئة التي تنبعث منها روائح كريهة من كل صوب – لأني لا أتخلى عنها إلا بعد مدة في نهاية الأسبوع حين أمنع من الخروج من المنزل عقابا لي لما اقترفته من مشاكل ومكائد وسنوها طيلة الأيام السابقة – ، ولم أنتبه إلى قدوم أبي فجأة على غير عادته في هذا الوقت ، فتقدم مني مسرعا ،ساخطا،مزمجرا،صائحا،هائجا ومستعدا لضربي والنيل مني وهو يقول بصوت عال بعد استنجاده بأمي التي كانت تطهو لنا طعام الغداء في المطبخ:
– ابق مكانك ولا تتحرك (يشير بيديه حتى لا أنهض في انتظار التحاق أمي بنا)، أسرعي يا زهرة، أقبلي وانظري حصاد تربيتك ودفاعك المستميت على هذا “الوغد”
– (مصدوما ومشدوها وخائفا منه ومن كلامه ولم أفهم شيئا) مرحبا بك أبي ،ماذا يحصل؟…
– ( مقاطعا بكل ما أوتي من قوة وشارعا في صفعي لولا مسك أمي ليده في لمح البصر ومنعها إياها من الاصطدام بفكي) انظري يا زهرة (يدخل إبهام يمناه وسبابتها داخل جراب رجلي اليسرى ويخرج منها علبة سجائر ممتلئة – فقد كان الجراب شفافا ومهترئا وممزقا في بعض أجزائه – ) انظري ماذا يفعل هذا “اللعين”…..
وواصل بطشه وعرضه وإهانتي والنيل مني ،وأمي تحاول إيجاد الذرائع والمبررات الواهية دون جدوى مما جعله يزداد غضبا وهيجانا، ولم يترك لي فرصة الدفاع عن نفسي -كذبا وبهتانا بطبيعة الحال – ، بل إنه نادى اخوتي ليشهدوا هذا المشهد ويحضروا أطواره….
فأمطرني ضربا،لكما،صفعا،ركلا….،إلى جانب السب والشتم والإهانة والاحتقار وغيرها ،ولم يرأف بي وبصرخات اخوتي وأمي واستجدائهم وطلبهم منه الكف عن ذلك، ولم تثنه دموعي وآهاتي ووعودي له بقطعي مع هذه الآفة وهجرها نهائيا – وهي وعود كاذبة – ،ولا حتى قدوم بعض الجيران الذين اعتادوا على مثل هذه التصرفات من والدي كلما غضب واشتد كظمه وغيظه….
ثم كبل يدي وربطها بساق الفراش ليحبسني هناك لساعات وساعات حتى ازراقت يداي وكادت تبتر ،ونال مني الألم والجوع والعطش وكثرة البكاء والاستجداء دون فائدة، وكانت أمي تحاول في كل مرة تخليصي من هذه الوضعية لكنها تفشل بعد أن تنال كمية هائلة من السب والشتم والعتاب واللوم….”
لكني، تذكرت حينها أني”نقمت” على والدي وعلى هذا التصرف المشين ، تمردت على قوانينه ومناهجه ونصائحه وتوجيهاته،تسلحت بالأنفة والشموخ والكبرياء و “الرجولة” – بما أني كنت أعتقد مثل أقراني وأصدقائي وقتها أن التدخين علامة من علامات الرجولة – والعناد والشجاعة ورباطة الجأش وغيرها من الصفات التي كنت أعتد بها، وعزمت على مواصلة ممارسة هذا الصنيع وإبراز “رجولتي” أمام الجميع….
ومنها، بات التدخين إدمانا لدي وتطورت بي الحالة إلى أن أمسيت أستهلك أكثر من ثلاث علب يوميا لعقود وعقود من الزمن ، وهجرت الأكل والرياضة والنوم العميق وحتى المشي واعتل الجسد وشاح وشاخ ، وبت أجد صعوبة كبرى في التنفس والنوم والقيام بأبسط واجباتي اليومية كالتعامل مع حذائي حين انتعاله مثلا أو تغيير ملابسي أو الاستحمام…
وتطورت بي الأمور إلى أن انسدت عروق رجلي ووهنت رئتاي وتكشفت على الموت مرارا وتكرارا ،وزرت قاعات العمليات في أكثر من مشفى ومدينة إلى أن صرت شخصا يعيش بمساعدة الأدوية والمقويات إلى الممات بعد أن أقلعت عن هذه الآفة مؤخرا وقد كادت تقضي علي لأخسر الدارين بتعلة “الرجولة” التي بت أكرهها كلما تعلق الأمر بهذا الموضوع الذي استفحل بي ونال مني ولن يتركني إلى أن أصير تحت الأرض في انتظار يوم الحساب وما سأناله من عقاب جراء هذا التصرف “الغبي” الذي دفعت فيه أموالا طائلة طيلة عقود زمنية ليخرجني في النهاية مهزوما شر هزيمة ،وأحمد الله أني لم أصب بسرطان الرئتين ولم يعتل قلبي بعد إثر هذه المغامرة التعيسة.
Discussion about this post