ما أروع هذه الموسيقى وهذا اللحن الشجي، ما أعظم هذه اللوحة وصانعها العلي، ما أنبل هذا المكان وهذا الرقي، ما أجمل هذا العزف النقي وهذا الحلم الجلي الذي أخذني إلى عالم سخي بالصور والمشاهد التي تعقم قلبي وعقلي وتفكيري من أدران هذا الواقع المزري، فتساعدها على المراجعة الذاتية لتدرك لاحقا – ربما – الطريق السوي ….
ما أعذب خرير المياه وصوتها الجميل و تدفقها في سواقي هذا الحقل العريض والطويل وانسيابها وتسابقها من أجل بلوغ الهدف الجليل وهو إحياء بذور ترنو للتواجد والازدهار والتبجيل، ما أحسن تدافعها وتسابقها العفوي المسترسل من أجل إنهاء مهامها على أكمل وجه نبيل، ما أبهى سقيها لكل شبر تراب تعبره عليل فتحيي فيه كل ميت بإذن الله الوكيل ….
فعلا، هو منظر خلاب، أنساني في هذه اللحظة – وحق الوهاب – صخب هدير الأمواج الجذاب وتلاطمها وشدة قوتها وصراعها العصاب الذي تجاوز عمق البحر وما به من عجب عجاب ليطفو على الأرض – محور التكاثر و الإنجاب – ويعلن عن بداية عزفها للحن مميز وجميل تسعد الأذن لسمع الطرب والانجذاب والهرولة في ملكوت السراب، عزف لا تجده في غير البحر مهما طرقت في الدنيا من أبواب ، يدفعك إلى السباحة في عالم الأحلام وإن لم تتقن فن السباحة والإنسياب في هذا الكون المستراب، ولم تتعلم أبجديات التعامل مع هذا المكان الخلاب وما يحتوي عليه من أسرار وأغوار ودروس يعجز عن توثيقها أي كتاب …
ما أطيب رائحة هذا المكان ونقائه من كل الأدران رغم كثافة تواجد الحيوان وغناء كل نوع وفق المقدرة والإمكان، فهذه كلاب تنبح في كل مكان ، وتلك قطط تعوي هناك بقرب ذاك الجنان، وعصافير تزقزق فوق الأغصان، وذباب تسمع أزيزها في كل لحظة وزمان، وخيل يصلك صهيلها من إسطبلها من آن لآن، ومأمأة الخرفان ، وسجع الحمام، ونهيق الأحمرة، ونقنقة الدجاج في الأقنان، ونقيق الضفادع، ونعيق الغربان….. ،وغيرها من الأصوات والألحان محت في لحظة عذوبة ما اختلج هذا الوجدان وما اعتراه من شجن وحنان ورقة وعذوبة بعثها فيه الرحمان إثر زيارة البحر في هذا الأوان ككل يوم هروبا من الإنسان وما يسببه لي من أفراح وأحزان….
وها إني مجددا في حقلي أستمتع بهذه الطبيعة الخلابة البهية، أحلق في سماء أحلامي الزكية وذكرياتي العذبة الأبية التي هربت بي في هذه الأمسية إلى فترة من شبابي فتية ظننت فيها الفلاحة عملا مزريا إن لم أقل أذية وعقابا من الله لمن لم ينجح في دراسته ولم يخطط لمستقبله بجدية، فقال لي والدي حينها بكل رفق وندية:
– لا تقل هذا الكلام بني و تيأس من رحمة الأحد، فمن جد وجد، ومن عمل عملا صالحا وكان الله له خير سند نجح وفلح وعلى نفسه بعد الله اعتمد
– (بصوت خافت مرتبك) الفلاحة مضنية ومتعبة أبتاه، بل إنها عقاب لمن تلاعب به الزمن وتناساه وفشل في ترويض القدر فأرداه قتيلا بين البشر وهو حي يحمد ويشكر مولاه
– (مقاطعا) ستكتشف زيف أقوالك غدا أيها الفلاح عندما تدرك نبل عملك وما فيه من صلاح وبركة ويمن وفلاح وتعب وأرق يتلوه نجاح….
وتابع عرضه وإقناعه لي بقيمة هذا العمل وقداسته وشرفه رغم العرق والبلل معللا ذلك بالأدلة والبراهين والقول الجلل – وكنت لا أبالي بذلك وبهذا العمل ، بل إني كنت أعتقد جازما أن الله خلق لنا أذنين ليدخل فيها الحديث من أذن ويخرج من الأخرى دون خجل أو وجل-….
وها قد تحققت تلك اللحظة الموعودة – انطلقت بذرتها الأولى في الحقيقة منذ أن مات والدي وسندي في لحظة مشهودة – وأيقنت أن عملي عبادة وجهاد ومحاولات عملية وموجودة من أجل المحافظة على الوجود واستمراره و تأمين كينونته المنشودة، وأدركت أنني أمارس فنا لا مهنة آفاقها محدودة، فهي مصدر الكون وسر تواصله، ومن يقول عكس ذلك فرؤيته عليه مردودة….
Discussion about this post