قراءة نقدية: “القصيدة ومتعة الاسلوب”
القصيدة:(قصيدة الترحال نموذجا)
الشاعرة: الهام عيسى(تونس)
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية:”القصيدة ومتعة الأسلوب”
لقد اختارت الشاعرة الهام عيسى عنوانا لقصيدتها” الترحال”وهو مصدر من رحل .ومن معاني الترحال :التنقل /السفر/ الاغتراب…
ان مفردة الترحال مقترنة بمفردة ملازمة لها وهي الحلّ فيقال “في الحل والترحال”اي في الاقامة والسفر.
وبالتالي هل الحبيبة ستلقي يوما عصا الترحال لتتوقف عن كثرة الرحيل؟
وفي هذا الاطار تقول الاديبة الجزائرية أحلام مستغانمي:” ما هو الحبّ؟
فتقول :”الحبّ هو أن تملك سببا للرحيل كل مرّة ولا ترحل”
هل شاعرتنا الهام عيسى اختارت الترحال ام هو الذي اختارها؟
استهلت الشاعرة قصيدتها بفعل بصيغة المضارع المرفوع المسند لضمير المتكلم المفرد (أذرع) وهو دلالة على استمرار ودوام حالة ذرع الدرب.
وفعل ذرع عادة مقرون بعبارات دالة على المعاناة فنقول: أذرع البلاد طولا وعرضا اوأذرع الدرب جيئة وذهابا وما يوحي به من تعب وما يقتضيه من طول نفَس والشاعرة عبرت عن هذا التعب وهذه المعاناةحين قالت:
//أذرع الدرب جسمي يذوب//
لكن أيّ درب تذرعه الشاعرة؟
الدرب لغة هو طريق ضيق أو ممرّ ضيق سواء كان في الجبال او في المدينة او في اي مكان آخر.
واقترنت كلمة الدرب بصديق او رفيق الدرب وهو رفيق العمر او رفيق الحياة.
وهل يمكن الحديث عن درب الحب الذي أفنى جسمها وهي تذرعه؟
تقول الشاعرة: وحرقة في الفؤاد حارقة
لا الزاد يشفي صبابتي
ولا بالجنب صحبي وخلاني
ان المعجمية التي استخدمتها(حرقة /في الفؤاد/حارقة/صبابتي) توحي بان الدرب الذي تذرعه هو درب الحبّ الذي يحترق فيه فؤادها.
والصبابةهي الشوق الشديد للشخص المحبوب والرغبة في رؤيته والتواصل معه.
وهي ثاني مراحل الحب التي هي” مرحلة الهوى/مرحلة الصبابة/مرحلة الشغف/مرحلة الكلف/مرحلة العشق/مرحلة النجوى/مرحلة الهيام.
ولعل أصعب مراحل الحب مرحلة النجوى وهي مرحلة الفراق بين الحبيبين وهي تختلط فيها المشاعر بين الحب الشديد والحزن لعدم المقدرة على لقاء المحبوب ورؤيته لاي سبب”(1)
ان الحبيبة تعيش غربتين غربة نفسية وغربة اجتماعية :
– غربة نفسية: انّ ما لها من زاد عاطفي وجداني لا يشفي حبّها الشديد لتصبر على فراقه وتتعلل بما لديها من ذخيرة الذكريات .
– غربة اجتماعية فلا صحب ولا خلان يواسونها .تقول:
لا الزاد يشفي صبابتي
ولا بالجنب صحبي وخلّاني
وهذه الغربة النفسية تتناص فيها مع بعض الشعراء:
يقول بدر شاكر السياب عن الغربة العاطفية والروحية:
يا غربة الروح في دنيا من الحجر// والثلج والقر والفولاذ والضجر
يا غربة الروح لا شمس أئتلق فيها ولا أفق // يطير فيه خيالي ساعة السحر
يقول العباس بن الاحنف:
قد خفت الّا أراكم آخر الأبد// وأن أموت بهذا الشوق والكمد.
ان هذا الاغتراب المزدوج قد أتاح للترحال أن يختارها ويحتويها.
هل الترحال هنا هروب من النفس ومن الواقع؟ تقول الشاعرة:
أدهس قفر الخلاء
تدور عيوني
في بحور الدمع تائهة
تشكو للدمع والدمع يكويني
انها تعيش الخلاء العاطفي والخلاء الاجتماعي
انها تلوذ بالبكاء كمتنفس لغربتها العاطفية ولكن البكاء يكويها بلوعة فراق الحبيب.
ترى هل ان الشاعرة باسم الحبيبة هي في مرحلة النجوى في الحبّ و التي تجعلها في صراع بين مشاعر الحب الشديد والحزن لعدم المقدرة على لقاء المحبوب ورؤيته؟
لقد أوضح البروفيسور زايدلر ان “عذاب الحب الناجم على انتهاء العلاقة العاطفيةلا يتسبب في الاكتئاب والحزن فحسب بل قد يؤدي ايضا الى ما يعرف بمتلازمة القلب المكسور(2).
ان قلب الحبيبة لا يتحمل فراق الحبيب وقد يؤدي ذلك الى تسارع نبضاته والشعور بأعراض مشابهة بحالات الاصابة بنوبة قلبية وفي الحقيقة هذا ما يسمّى
متلازمة القلب المكسور.
انه “لا يوجد أصعب من فراق الاحبة فبدونهم يبكي القلب ويجف بكاء العين فما أصْعب ذلك حين تبحث عن مدامعك فلا تجدها ,تبحث عنها كي تطفئ بها جذوة الاشتياق ولهيب القلب المشتعل…تبحث عنها لتخفّف وطأة الألم وحدّته على نفسك
ولكنها تأبى النزول فتظل تحترق ويحترق قلبك الى أن يصبح رمادا..الفراق حديثه الصمت وعندما يفيض بنا يكون لسانه الدموع”(3)
– يقول الشاعر كثير عزة في البكاء:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا// ولا موجعات القلب حتى تولّت.
– يقول العباس بن الاحنف:
مازلت أبكي مُذْ قرأت كتابكم// حتى محوْتُ سطوره بدموعي.
– يقول ايليا أبو ماضي:
وتحيرت في مقلتيها دمعة//خرساء لا تهمي وليس تغور//
– يقول محمود سامي البارودي:
فزعْتُ الى الدموع فلم تُجبْني//وفقْدُ الدمع عند الحزن داءُ.
وما قصرتُ في جزع ولكن// اذا غلب الأسى ذهب البكاءُ
بعد أن لاذت الحبيبة بالبكاء وكان البكاء يكْويها عَاجَتْ الى كُتبها ودفاترها لعلها تجد ما يفرّج عنها وجعها لكن الذكريات على الصفحات تعيدها الى النواح.
والفرق بين البكاء والنواح ان :
– البكاء العادي بدمع العين.
– النواح عادة ما يكون على الميت عند النساء في تعديد محاسن الميت عند شدة المصيبة.
هل مصيبة الشاعرة شديدة حدّالنواح المحظور في الدين الاسلامي؟
هل انتابها اليأس للقائه حد النواح عليه كانه ميت؟
تقول الشاعرة: أقلّب كتبي ودفاتري
أنوحُ بين الصفحات
يداي في الافق مسارب تائهة
تُرْسل مع الريح عنواني
كأني بها أصبحت مبهمة عنده فتعيد ارسال عنوانها وتذكيرها بنفسها له أملا في لقائه. ولكن اليأس يجعلها ترى شمس حبه غائبة وتودّ لو تستقرّ باكوانها لتضيئها.
وأكثر من ذلك فقد استوت عندها الموت والحياة فتقول:
أمشي خيوط الفجر واهية
أأنسجُ من ظفائرها
ستارة لتحميني
أم أنسج أكفاني
بل انها تقرّ بالسفر وتدخل في مقابلة معنوية أخرى بين الحرية والقيد :حرية اختيار قدرها في الترحال الذي اختارها وقيد الابحار بين أوردتها وشرايينها والابحار بين أْوردتها وشرايينها اهْدار لدم شرايينها.
وبالتالي هل في السفر نجاة من معاناتها أم هلاك لحياتها؟
مسافر أصْنع قدري
حرّا طليقا أاتبعه؟
أم أكون أبحرت
بين أوردتي وشراييني؟
ان في هذا الترحال لا وسائل لها ولا أحد يسمع صوْتها ولا قبطان يُؤمّن ابحارها وترحالها فتقول الشاعرة:
أمدّ أشرعتي ممزّقة
يا دنيا العذاب وطوفاني
أين قيثارتي وأوردتي
وأين صراخي وقبطاني؟
ان الترحال الذي ارادت ان تلوذ به لعله يبعث فيها نفَسًا جديدا وينفث فيها روحا تُحْييهَا لكنها فقدت قيثارتها ورمز فرحها وأوردتها ورمز حياتها فكان الترحال عذابا وطوفانا يُغرقها وهل لها سفينة نوح لنجاتها ولا أحد يسمع صراخها ولا قبطان يقودها في ابحارها؟.
انها تعيش حالة من اليأس والتيه الذي تجاوزت فيه مرحلتي الصبابة والنجوى في الحب لتصل الى أصعب مرحلة في الحب وهي الهُيام …انها هائمة على وجهها لا تعرف وجهة..انه تيه الترحال.
ان الشاعرة استخدمت أسلوب المقابلة المعنوية التي أساسها الطباق اللفظي فقابلت بين الغربة العاطفية والغربة الاجتماعية/بين البكاء والنواح/بين الخلاء الروحي والخلاء الاجتماعي/ بين النور والظلام /بين الأمل واليأس/بين الحرية والقيد/ بين النجاة والهلاك..
ان استخدام الشاعرة لاسلوب المقابلة بامتياز يعكس هذا الصراع النفسي الذي تعيشه الحبيبة مع لوعة فراق الحبيب.
وأكثر من ذلك فان الشاعرة استخدمت رويّا وهو صوت النون الذي طبع القصيدة بصوت الأنين الذي جعل الحبيبة تبوح بوجعها وأنينها لفراق الحبيب.
شكرا للشاعرة على قلمها الثائر الذي طبع قصيدتها بالتفرّد.
بتاريخ:10/06/2024
=== القصيدة===
== الترحال==== الهام غانم عيسى ===
أذرع الدرب جسمي يذوب
وحرقة في الفؤاد حارقة
لا الزاد يشفي صبابتي
ولا بالجنب صحبي وخلاّني
***
أدهس قفر الخلاء
تدور عيوني
في بحور الدمع تائهة
تشكو للدمع والدمع يكويني
***
أقلب كتبي ودفاتري
أنوح بين الصفحات
يداي في الأفق مسارب تائهة
تُرسل مع الريح عنواني
***
جبيني الشمسُ معصوبة
تودّ تحط أنوارها
على ريحانتي راحلةٌ
يا ليتها استقرت بأكواني
***
أمشي خيوط الفجر واهيةٌ
أانسج من ضفائرها
ستارة لتحميني
ام أنسج اكفاني
***
مسافرٌ أصنع قدري
حرا طليقا أأتبعهُ
أم أكون أبحرت
بين أوردتي و شراييني
***
أمدّ اشرعتي ممزقة
يا دنيا العذاب وطوفاني
اين قيثارتي وأوردتي
واين صراخي وقبطاني
المراجع:
https://www.edarabia.com>..(1)
هل تعرف مراحل الحب السبعة؟7 علامات تؤكد طريقك للحب
https://www.aljazeera.net>health(2)
عذاب الحب يؤذي القلب ا أخبار صحة-الجزيرة .نت
https://www.aljazeera.net>blogs(3)
فراق الاحبة…جرح لا يندمل.
Discussion about this post