بقلم د. عبد الفتاح العربي
الاستعمار الغربي دَمَّرَ العالم بقوته العسكريّة الهائلة و في العصر الحديث استبدل القوة العسكرية بالقوة الناعمة و أصبحت القوة الضاهرة الغزو الفكري و الثقافي أعتى من سلاح القوة العسكرية.
وهو اخطر سلاح على الإطلاق حيث تمكن من مفاصل الحياة السياسية للبلدان و كذلك بهذا الغزو الفكري طمس كل معالم نهضتهم و جردهم من عاداتهم و تقاليدهم و شوه تاريخهم.
و زرع فيهم التواكل و نزع عنهم الابداع و التفكير و قدرة الوعي و خاصة الديني و غسل الأدمغة بمواصفات الاستهلاك في كل شيء دون الإنتاج في أي شيء و لم يجعل لهم رأي موحد و لا عقيدة و لا دين و لا خيال و لا منطق و اكثر من الجدل العقيم و زعزع الايمان و أكثر من الخبث و عوامل الشر و غسل الأدمغة و تخدير العقول عن طريق فرض الثقافة
والحضارة الغربية بتلميعها في نظر الشباب الذي فتح عينيه على مُعْطَيَات الحضارة الغربية التي بدت خلابة باهرةً للألباب، خاطفةً للأبصار.
وكلُّ ذلك قام مقام سلاح أشد فتكًا من السيف ، وكان هذا الغزو شاملًا ومُمْتَدًّا، فلم يقف عند حدّ، ولم تكن له نهاية؛ فكانت ضرباتُه خطيرةً قاصمةً للظهر، قاضية على معنويات الأمة، فغيَّر مناهج التعليم وفق مناهج غربية، وحال بين الأمم وتاريخها وسِيَر أسلافها، وهيمن على العادات والأعراف، وَرَسَّخَ أفضليةَ الثقافة والحضارة الغربية في نفسيّة الأمم.
لقد كان من نتائج الغزو الثقافي الغربي للأمم، أن هذا الغرب أخذ يحارب كل ماهو مخالف للثقافة و الفكر الذي يريد ترسيخه للأجيال القادمة و نزع كل المفاهيم القديمة و اقتلاع الإيمانَ بالقضايا و المباديء والثقة بالذات.
ويحَاوَلَ أن ينشيء ثقافة العولمة في جميع النواحي و محوَ كل ماهو دين و مناهج تعليمية ، وطمسَ كل التاريخ بل و كتابة تاريخ جديد و من جديد على حسب فكره .
فنشأ عن ذلك ظهورُ أجيال آلت إليها المسؤوليّةُ القياديَّة؛ لكنها صارت فارغةً إيمانيًّا وفكريًّا وغَيْرِيًّا، فهانت للغرب السيطرةُ عليها وتسخيرُها لتحقيق أغراضها الاستعمارية بصورة أشمل، وقوة أكثر، ونطاق أوسع.
وكان من المُعْطَيَات السلبيّة الخطيرة للغاية، للغزو الثقافي الغربي للعالم و خاصة العربي والإسلامي، التشكيكُ في قدرة هذه الأمم في بناء الحضارة العصريّة المتطورة التي تُواكِب الركبَ الحضاريَّ الحديث ؛ والافتتانُ لحدِّ بالغ بالمناهج الغربيّة وقوانينها، وبالتالي تقليدُ الغرب واستيراد نظمه وسلوكياته، مهما كانت متصادمةً مع تعاليم الامم الاخرى ، وانصبَّ ذلك في تمزيق وحدة جميع الدول و خاصة منها العرب والمسلمين، وتفكيك أواصر أخوّتهم وعلائق مودّتهم المثاليّة.
وكان من أهم مجالات الغزو الثقافي مايلي:
أولًا: مجال التعليم والتربية:
عمل الغزو الفكري الغربي على تغيير المناهج التعليمية و ترك كل المناهج القديمة و غرس و تكريس مفاهيم جديدة تخالف القواعد المبينة على المباديء و نظريات صحيحة و تغييرها بأخرى تشكك في كل ماهو تعليم كلاسيكي و انصر التعليم المعولب على عقد البيع و الشراء و الربح المادي حيث صاغ الغربُ عن طريق هذا الغزو إلى جعل الأمم تنساق دون وعي في بوتقة الثقافة الغربية وقالب الحضارة التي طَوَّرَها، فعَمِلَ على ترغيب الأمم تارة و ترهيبهم تارة أخرى و ربط الاستثمار و الدعم الاقتصادي للدول بقبول هذه المناهج و جلب الشباب المتميز للالتحاق بمدارسهم و كلياتهم و تشجعت الدول في إرسال نخبتها إلى هذه المدارس والكليات والجامعات التي يتم فيها تدريسُ العلوم العصرية ليتم صناعة الأجيال العربية مصوغةً في بوتقة حضارة الغرب وثقافته، وبالتالي إعدادها للأجيال لتَوَلِّي القيادة في مجتمعاتها .
ثانيًا: مجال اللغة العربية:
عمل الغرب بوسائل متنوعة وحيل ماكرة كثيرة، على محاربة اللغات و خاصة اللغة العربية تاركا اللغة الإنجليزية تهيمن على العالم باعتبارها وسيلةَ تعبير عالمية و تدرس بها جميع المواد العلمية.
كما أن للغة الفرنسية نصيب مع تراجعها إذ على سبيل الذكر في غزو أفغانستان إلتجأت القوات الأمريكية لبناء قواعد عسكرية و لكن القوات الفرنسية و كعادتها في كل استعمار للبلدان التجأت لبناء المدارس لتعليم الأفغان اللغة الفرنسية و مناهجها ،و هذا دليل على الغزو الثقافي بأنواعه.
ثالثًا مجال الإعلام:
اتَّخَذَ المنظرون لهذا الفكر الاستعماري أعداء الانسانية وسائلَ الإعلام وسيلةً فعّالةً، لتنفيذ غزوهم الثقافي والفكري، علمًا منهم أنها تعمل في الرأي العامّ ما لا تعمله أي وسيلة أخرى، فشحنوها ببرامج مُدَمِّرَة متّصلة للأخلاق والمروءة والإنسانية .لقد سخروا كل طاقاتهم الفكرية و المادية لجعل وسائل الإعلام المرئية منها و السمعية و خاصة وسائل التواصل الاجتماعي و المنصات التابعة لجعل هذا الإنسان منبت عن الواقع و يمررون له كل الأدوات لجعله مرتبط بأفكارهم الهدامة دون تفكير عميق و جعله يستهلك فقط دون أن يبدع أو يفكر أو ينتج أو يصنع و بالتالي يكون هذا الإنسان مثل الآلة (Robot) يقع استعماله فقط.
هذا هو انسان المستقبل بالنسبة لهم بيدق و عبد يسمع و يطبق و يطيع، يتواصل عبر وسائل التواصل و لا يتواصل لا مع أقرانه و لا مع عائلته و تتفك المنظومة ليقع السيطرة عليها بسهولة.
رابعًا: مجال الحياة الاجتماعية:
حاول الغرب أن يُدَمِّرَ عمومًا القِيَمَ الخلقية والأخلاق والتقاليد والعادات الموروثة النبيلة، بفرض التيارات الغربية المُدَمِّرَة للحياة الاجتماعيّة، فابتعد اكثر الناس عن عمقهم و أصلهم و عائلاتهم و تفككت المنظومة الكونية و ابتعدت عن الصواب.
أصبح الإنسان لا يعرف الحقيقة للعيش لأن النظام العالمي شتت الأفكار و سيطر عليها و اصبحت العلاقات بصفة عامة مدمرة و مفككة حتى منظومة الزواج أصبحت تعاني من تراتيب غريبة لمسألة التحرر الفكري التي لا تخضع لأية نواميس لا دينية و لا عادات .
فذابت هُوِيَّتهم أو كادت، وامَّحَتْ شخصيتُهم أو أَوْشكتْ.
(يتبع)
Discussion about this post