بقلم د. عبد الفتاح العربي
وبما أن الغزو العسكريّ يهدف أصلًا إلى احتلال الأرض، يكون خطره محدودًا نسبيًّا. والغزو الثقافي يهدف أولًا وأخيرًا إلى احتلال العقل والفكر وتغيير النفسيّة؛ ولذلك يكون هو أشَدَّ خطرًا من الغزو العسكري، الذي إنما يكون مصدرُ قوته من آليات الإخضاع الخارجي. أما الغزو الثقافي فاعتماده الكلي يكون على آليّات الإخضاع الداخلي، الذي يتم فيه تعمية الحال وتجميله، فليتبس على كثير من الناس الذين يندفعون إلى قبوله على أنه ليس إخضاعًا أو تسخيرًا للذات، فيعودون يعتقدون أنه ليس غزوًا، وإنما هو طريق إلى المثاقفة والتلاقح المعرفي الثقافي الحضاري الذي لابدّ منه في عصر التنوّر الذي نعيش فيه، والذي صار فيه العالم قرية كونية، يُضْطَرُّ سكّانها إلى التبادل الأشمل الأكثر امتدادًا واستيعابًا.
والحقيقة ما قاله العلامة عبد الرحمن بن خلدون (732-808هـ = 1332-1406م): «إنّما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوّها». أي أن الأمة المَغْزُوَّةَ غزوًا ثقافيًّا فكريًّا لا مَحَالَةَ تنهزم انهزامًا نفسيًّا وتندفع إلى تقليد الأمة الغازية القاهرة، التي تكون قد فرضت عليها تقليدَها وعاداتِها.
إن الغزو الثقافي يَهْدِف إلى تخريب المناعة الذاتية لدى الأمة، ومن ثم اعتمد الاستعمارُ الحديث على الغزو الثقافي تاركًا وراءه الغزو العسكري الذي رآه لا ينفعه في دنيا اليوم، ورَكَّز اهتمامه على الغزو الثقافي الاقتصادي الذي جرّبه ذا رَيْعِيَّة واسعة، ولذلك نرى في عالمنا المعاصر أن أمريكا هي الوحيدة التي تتفرد بقرنها بين الغزو العسكري الثقافي والغزو العسكري الذي يستعين به على تعزيز الغزو الاقتصادي.
فتوجه الاستعمار الحديث إلى فرض الهيمنة الثقافية الاقتصادية السياسية، على العالم و بوجه خاصّ العالم العربي و الإسلامي بوجه عامّ، فحاول محاولة مُخَطَّطَةً دائمةً فرضَ سيطرته على مصادر الطاقة والثروات الطبيعيّة إلى جانب قيامه بالغزو الثقافي والعملية السياسية المتشابكة في داخل البلاد العربية التي بَدَتْ مستقلة ذات سيادة حُرَّة؛ ولكنها في الواقع ظلت محكومة من قبل الاستعمار الغربي .
لقد كان الغز والثقافي أو الفكري الغربي أخطر من جميع أنواع الغزو الغربي. وكل ما نراه من المفاسد المدمرة في العالم و خاصة العربي والإسلامي، التي جَرَّدَت المسلمين من معنوياتهم، وجعلتهم جسدًا بلاروح أو هيكلًا خشبيًّا لا يُؤَدِّي دورًا في الحياة، إنما هو نتيجة لهذا الغزو الذي أحكم اليوم قبضتَه، وعَزَّزَ سيطرته، واستعبد العقول، وسَخَّرَ القلوب، وخَدَّر وعيَ المثقفين بالثقافة الغربية والقادة والحكام الذين يحكمون البلاد على وحي من الغرب، وإملاء غير مباشر من هذا الغرب الذي يخطط دوما للاستحواذ على مقدرات البلدان و الشعوب و ابتزازهم و جعلهم فقراء ماديا و فكريا و جهلة .
Discussion about this post