يرتدي الزيَّ المميز للفُرسان، يخطو بثقة، توقف أمام جواده لحظات ثم اعتلي ظهره بقفزة واحدة، أخذ يُسيِّره في الطرقات بمهارة فائقة، فارسٌ بحق..
يؤمن في صميم قلبه أن الفروسيةَ ليست زيًّا ولا جوادًا أو مهارات ظاهرة فقط، بل صفات تستوطن قلب الفارس، مثل قول الصدق والشرف والكرم والنبل وإغاثة الملهوف..
سمع صراخها عاليًّا، تستغيث؛ لعل أحدهم يحررها من أيدي بعض النهَّابين، هرع إليها، قفز من صهوة جواده، ثم امتشق سيفه بمجرد أن لامست قدماه الأرض، بارزهم بمهارة فائقة، هزمهم وفروا من أمامه.
لم يدرِ كمْ أعطى السائل الذي تعلق بصهوة جواده بغتَة، يطلب منه عطية، وهو في طريقه إلى متحف الفنون، الذي يُعدُّ واحدًا من الأماكن المُحَببة إلى نفسه، يزوره كلما سُنِحت له الفرصة؛ فالرسم هوايته واستكشاف خفايا لوحة أحدهم متعته، وصل إليه فأوقف جواده ثم ترجَّل عن صهوته..
يتجوَّل داخل صالة العرض منتصب الظهر، يتطلَّع إلى اللوحات المُعلقة هنا وهناك، استوقفته إحداها، أخذ يتطلع إليها وعلى وجهه ترتسم علامات تعجب؛ تعرض اللوحة ألوانًا صارخة لطُرُزٍ غريبة من الأثاث والبُسُط والملابس، تبدو كأنها مُستوحاة من حضارة لا يعرفها، ثقافة لم يدرسها أو يسمع عنها..
يتأمَّلها..
تُظهر اللوحة شابة تجلس بجوار سيدة على أريكة، يقف أمامهما شاب يعطي ظهره للوحة، يرتدي قميصًا خفيفًا فوق سروال ضيق، ورجل أشيب يخاطبه ويشير بيده، كأنه يطلب منه أن ينظر إلى شيء ما خلفه..
أطلق الفارس صيحة دهشة؛ لقد تحرك الشاب داخل اللوحة ونظر إلى حيث يشير الرجل، واستحالت دهشته ذهولًا؛ لقد بدا الشاب نسخة طبق الأصل منه لولا شعره القصير وملابسه الغريبة..
تجمد في مكانه بغتة، وتجمد كل شيء من حوله.
كان الأشيب يطلب من الشاب أن ينظر إلى لوحاته المعلقة على الحائط خلفه، التفت الشاب، دُهِشَ لما يراه؛ يرى نفسه يرتدي ملابس فارس، يُنقذ امرأة في لوحة، يُعطي سائلًا في أخرى، وإحداها تظهره واقفًا داخل بهوٍ فسيح، منتصب الظهر..
حَدجَ الأشيب بِنَظْرَةِ ارتِياب، ثم حَدَّقَ في زوجته وأمه الجالِستَين على الأريكة يستجلي منهما الأمر، ولم يتلقَ جوابًا..
التفت إلى الأشيب في حدِّة يسأله عن معنى رسوماته، تلعثم وهو ينظر إلى الأم يستنجد بها..
قالت الأم:
– أنا من طلبت منه ذلك.
– أن يرسمني كفارس، لماذا؟!
– هو ما أتمناه لك.
– تعلمين أني لا أجيد ركوب الخيل من الأساس، كما أكره أن أرتدي مثل تلك الملابس.
– الفارس ليس جَوَادًا ولا مَلْبسًا، بل قلبًا نبيلًا، الفارس يفعل الخير، يحب الحق والعدل.
تدخل الأشيب وقال: نعم، الفارس بأفعاله.
قالت الزوجة: كنت أراك فارسًا لأحلامي حين قابلتك؛ وهو ما شجعني على قبول الزواج منك، أما الآن …
– لم أعد فارس أحلامك، أليس كذلك؟
قالت الأم:
– لم تعد فارسًا لأي أحلام، لقد تبدلت منذ وفاة أبيك، صرت تستحِلّ قول الزور وفعل المنكرات، تفعل أي شيء لتربح أنت وحدك.
– إنها مُتطلَّبات العصر، لكل زمان رجاله.
– الرجال الحق هم لكل الأزمنة.
– لا أبحث عن الخلود.
– الأفعال هي التي تمكُث وتُخلّد لا الأشخاص، يبقى فعلك الحسن خالدًا أبدا، إغاثة الملهوف، إعطاء السائل، قول الحق.
– كما في تلك اللوحات، أليس كذلك؟ هيهات، إنها مجرد لوحات صماء.
– بل تخليدًا للحظات عطاء.
– لم يره الكثيرون وهو يُنقذ الفتاة أو يُعطي السائل، لن يذكروه.
– ستتذكره نسمة الهواء التي أحاطت به، ستتذكره تربة الأرض التي وقف عليها، سيتذكره شعاع النور الذي أظهر لحظته.
قالت الزوجة:
– أمعِن النظر في اللوحات، تَعمَّق فيها، اقرأ التفاصيل الدقيقة.
التفت إليهم من جديد، بتأمَّلهم، يدقَّق في تفاصيلهم، ثم تجمَّد في مكانه بغته، وبدأت الحياة تدُب في اللوحات، يرى نفسه بعين الخلود يُنقِذ الفتاة، يُعطي السائل، وأكثر من ذلك..
ثم بدأ يحيا لحظات الفروسيَّة، ويشعر شعور الفارس..
وهناك، داخل صالة الفن، خرج الفارس من جموده، غادر المكان، عاد إلى مزاولة مهامه كفارس.
Discussion about this post