بقلم د. هيفاء بيطار
لا يمكن تجاهل آلاف من الشبان السوريين الحاصلين على أعلى الشهادات الجامعية، والذين في عمر الورود، وقد تحولوا بطريقة تُشبه مسرح اللامعقول إلى أوراق نعي وإلى “الشهداء الأبطال”. لا يكاد يمر يوم إلا وأرى على صفحات “فيسبوك” والتواصل الاجتماعي صوراً لشهداء شبان في الجيش السوري، أحدهم حاصل على ماجستير في هندسة المياه والري، والآخر حاصل على شهادة في علم الاتصالات، وآخر في قسم المعلوماتية أو الآداب بأنواعها، أي منطق لا يمت للمنطق ولا للإنسانية بصلة، يقرر مصير هؤلاء الجامعيين الذين هم نخبة الوطن، ومن سيبني سورية، إن كان من أحد يريد لسورية ترميم نفسها، من يقرر أن شاباً جامعياً متخرجاً حديثاً يشع وجهه بنضارة الصبا والشباب، ويحمل الماجستير في علم المياه والري أن يحمل بارودة، ويذهب إلى معركة وجد نفسه قد زُج فيها رغماً عنه، كما لو أن شهادته الجامعية مُبطنة بشهادة أخرى، هي الشهادة الأكثر حقيقية، أي حمل السلاح والتحول إلى جندي. وليس مؤكداً أن هناك وقتاً كافياً ليتدربوا على إطلاق الرصاص على العدو الذي يقال لهم إنه العدو.
ألا تكفي الأعداد الهائلة من الجيش السوري النظامي للمعركة؟ لماذا يُسحب هؤلاء الجامعيون الذين يفترض أن يكون علمهم ومعرفتهم في مكاتب، وفي مبانٍ حكومية أو شركات خاصة؟ أعرف شباناً عديدين، كان أحدهم متخرجاً من كلية هندسة الاتصالات بتفوق، وجد نفسه يحمل بندقية، ويقف على حاجز، وبعد أسبوعين تحول إلى ورقة نعي، ما جعل أمه تُصاب بانهيار عصبي، وتفقد صوابها، وهي تقول ذاهلة من الألم وهول الفجيعة: ابني مهندس، من الذي أعطاه بارودة ليقاتل، وهو الذي لم يقتل في حياته نملة. ويأتيها صوت النساء المعزيات: الشهداء أحياء عند الله. فتلطم، وتصرخ إنها تريد ابنها المهندس.
ولم يعد خافياً هروب الشبان خارج سورية (ساحة الوغى) لكي لا يكون مصيرهم، مثل أقرانهم (الشهداء الأبطال). كما أن طلاب التخرج في السنة الجامعية الأخيرة يتعمدون الرسوب، فقد أصبح التخرج كارثة، لأنه يعني جر هؤلاء الشبان، ليحملوا بارودة، ويتحولوا جنوداً. أذكر أننا، في المناهج المدرسية في سورية، درسنا بالتفصيل أجزاء بارودة الكلاشينكوف، وكنا في عمر المراهقة نتمرّن على الرمي. ونؤخذ إلى ساحات واسعة، حيث توضع لنا أهداف، ثم يحمل كل طالب وطالبة بارودة الكلاشينكوف للرمي. ولم أكن أجد أي معنى، ونحن في عمر 14 عاماً،
“الجندي ومن يدعم الجيش السوري هم من يجب أن يحملوا السلاح، وليس هؤلاء الشبان الجامعيون الذين ماتوا بالآلاف” لأن نفكك الكلاشينكوف. وفي المرحلة الجامعية، كان الطلاب الذكور يقضون أشهر الصيف في معسكرات التدريب الجامعي، وهي التدريب على السلاح، إلى درجة تحس أن الغاية الرئيسية للجامعة هي ثقافه البارودة وشهادة البارودة، المتوجتان بالموت الذي يسمونه الشهادة، وما هو شهادة على الإطلاق، بل قتل لهؤلاء الشبان الذين درسوا سنواتٍ في الجامعة، ليعيشوا أولاً، لأن القيمة الأولى في الحياة هي الحياة نفسها، ثم ليمارسوا علمهم في خدمة الوطن. كان كل شيء في سورية مبطناً، وكل شهادة مبطنة ببارودة، وكل جامعي توجد دمغة غامضة على جبينه أن الغاية من وجوده أن يُستخدم عند اللزوم والحاجة، ليقدم روحه فداء للعبث وليس للوطن، لأن مكان الجامعي ليس ساحة الوغى، بل العمل في اختصاصه.
الجندي ومن يدعم الجيش السوري هم من يجب أن يحملوا السلاح، وليس هؤلاء الشبان الجامعيون الذين ماتوا بالآلاف. وحالياً، وبعد أن فتحت أوروبا أبواب الهجرة، هج آلاف من الشبان السوريين، ومعظمهم من الجامعيين خارج وطن البارودة، ولم يعد مواطن سوري إلا ويعرف طريقة الهرب من الوطن. المرحلة الأولى إلى مرسين، ثم عن طريق مهربين معينين يسافرون بحراً، وهي مرحلة خطيرة جداً في الهروب إلى جزيرة يونانية، ثم إلى أثينا، ومنها يتوزعون كالهائمين على وجوههم في الدول الأوروبية.
كل شهادة جامعية في سورية ليست علمية بشكل صافٍ ونقي، بل مبطنة بثقافة البارودة التي هي القيمة العليا. الرصاصة أهم من شهادة هندسة الاتصالات أو الأدب الإنجليزي أو الفلسفة، لأنها في سورية عنوان فلسفة الحياة، وهؤلاء الجامعيون المساكين اكتشفوا أنهم بهاليل، إذ صدقوا أنهم تخرجوا من جامعهٍ، شعارها الأساسي السلاح وليس العلم.
يستحق هؤلاء الآلاف من الشبان الجامعيين الذين أجبروا على حمل السلاح أن يكون لهم حق بأن تتشكل لجان تحكي عن الظلم الفظيع الذي وقع عليهم. يكفي أن حياتهم سُرقت منهم، وأن ينتبه المجتمع الدولي لهذه الظاهرة، وهي ازدواجية الشهادة الجامعية وازدواجية كل شيء في سورية البارودة. وأخيراً، ولأن شر البلية ما يضحك، كل البسطات على الأرصفة، وكل محلات الألعاب للأطفال، ممتلئة ببواريد تكاد تتطابق مع البارودة الحقيقية. من سمح بتدفق ألعاب تُصنف ألعاب أطفال سوى الازدواجية أيضاً، وتهيئة الأطفال، ليتآلفوا مع آله القتل.
Discussion about this post