عندما كنت شجرة وليس أي شجرة
كنت؟
كنت تينة جذوري ضاربة في الأرض
وفروعي لا تعرف للغرور سبيلا… ولا أدّعي أنني بلغت عنان السماء والمعروف عن التين إنّـه شجر متواضع لا يتكلف ما ليس فيه، ولا يملك غرور السرول الذي يتباهى بطول قامته وبهامته التي اتخذتها السماء عمدا حتى لا تسقط كسفا…
كنت تينة في فناء بيت عتيق أهله كرماء يغدقون علي الماء ولا يبخلون بالسماد
أو حتى بالجلوس إلي ومسامرتي
فأنا الأنيس والصديق وكاتمة الأسرار
قلبي مفتوح للجميع
فالأطفال يحومون حولي في هرجهم ومرحهم وفي قمة سعادتهم قد يقرصونني وذلك بنزع أوراقي ، وأنـا طفلة في سنهم كنت أغضب وأثور وأرتفع مبتعدة تجنبا لأذاهم،
وأنـا شابة بات يعجبني ما يفعلون فأشاركهم الفرحة ويسعدني جدا قرصهم وطوافهم حولي،
وأفكر بنضج أنّ نزع بعض أوراقي لا يُعرِّيني ولا يفضح شحوبي هذا مقارنة بما يفعله معي الخريف ،
هذا الفصل الذي لا يملك ذرة حياء
حيث يجردني كليا من أوراقي ، فأرفع أغصاني متضرعة طالبة الستر…
وشيخ الدار يجلس مسندا ظهره المتعب إلى جذعي ممسكا بمنسأته بين يديه في وضع صنم ويسافر في رحلة الذكريات ويأخذني معه فأجوب معه الأقاصي في رحلات سندبادية
وكم أرثو لحاله عندما يتوقف في محطة ويتوه فيها ولا يجد مخرجا ولا خلاصا من هذه الذكرى المستعصية
كنت أراه يعصر ذاكرته فتخونه ولا تسعفه فينتفض وأنتفض معه،ويقفز هاربا بعيدا عني فأحزن …
وهذه الفتاة الشابة تقترب مني وفي غفلة من أهل الدار تعانقني بحرارة ولوعة المشتاق فأحسّ بدفء يتسرب
إلى مفاصلي وذبذبات عشق جامح تلفني وكم أستلذ قبلتها على ورقة من أوراقي الحانية…
وذاك الطفل المسكين الذي لا تخرجه أمه ألى الفناء إلا في غياب الجميع ، كنت أظن أنه يكرهني بلا سبب ،حيث كلما اقترب مني تبوّل على وجهي وتمتم كلمات مبهمة،تنهره ربة البيت وتغسل وجهي بسطل ماء ، تسكبه بكل ما أوتيت من قوة وكأني أتلقى صفعة أتألم واشكرها في سري وأغفر للطفل ،وخاصة عندما أدركت أنه مختل المدارك العقلية وليس عليه من حرج
كنت أعاند الفصول
فلا بـرد الشتاء القارس يردعني
ولا جبروت رياح الخريف تخيفني
وكم أحتفي بعودة الحياة في الربيع …
أنطلق في شطحات صوفية مع هبوب النسيم فتتعانق أوراقي في قبل خاطفة تثير غيرة الأغصان المثقلة ثمارا
أما الصيف فهو حكاية أخرى على أفناني تحط العصافير حيث تعزف شدوها في تناسق بديع فأطرب لشدوها وأغمض عينيّ لأستعذب هذه النوتات ذات الإيقاع المنسجم
حياة الترف هذه كنت أحسد عليها من طرف تين الضيعة
ولكن يا حسرتي لا أحـد كان يحس بوجعي الدفين
لا أحد يحسّ أن حلمي أن أكون في بستان شاسع أتمتع بحريتي وأصادق جاراتي من الأشجار المتنوعة
لا أحد يدرك أنني أسيرة هذا الفناء الضيّق الذي يخنق جذوري ويمنعها
من التمدد بل ويعرضها أحيانا للبتر
فأبكي ولا أحد يحسّ بي…
ويوم عزمت على التمرد والفرار جذوري استعصت ورفضت لأنها لو تزحزحت قليلا يسقط البيت على ساكنيه…
شاهدت قفر الدار من أهلها يرحلون
إما بالحياة أو بالموت
وبت أعيش وحدي في منزل مهجور
خبت الحياة من حولي وانطفأ وهج سراجها ولفني الصمت…
وفكرة بتر أطرافي وطرح جذعي أرضا في صَغار تؤرقني وتؤز مضجعي وتفسد علي راحتي
وكل أمنيتي أن أموت واقفة …
تسارعت دقات قلبي الذي لحد اللحظة كان يعزف على وتر الأمنيات،
وأفعى عظيمة تلتف حولي تعصرني
وآلة جهنمية تقترب مني ،وتمدّ عنقها الطويل
غثيان ،اختناق ،قرقعة ،ارتطام بالأرض وصرخة مدوية لا…لا…
لا تجتثوا الجذور… إنها رزقنا الباقي …فراخ زغب تناثرت …وصمت رهيب…
فائزه بنمسعود
يوميات مارقة الجزء الثاني
29/3/2024
Discussion about this post