تداويني الكتب، تعالج شروخ روحي، هي مضادات اكتئابي الخالية من الآثار الجانبية. عرفت ذلك منذ البداية، منذ ابتدأت أتهجأ الأبجدية، كانت الجملة الفصيحة باللغة العربية تسقط على قلبي مثل رذاذ مطر خفيف، ثم صارت الكتب ملجأي، العالم قاسٍ في أحيان كثيرة، فيه الكثير من الظنون وسوء الفهم. نولد أبرياء مقبلين على الحياة، لا نريد شيئاً سوى الانطلاق بسعادة وابتهاج، نوزع الحب الذي يعتمر في قلوبنا على البشر والكائنات الحية والشجر، نرفع أقدامنا عن سرب نمل خشية أن ندهسه، نخاف أن نتسبب بالأذى لأي مخلوق يتنفس، نستند على جذع شجرة ونمسّد أوراق الورد، نحب الحياة والطبيعة والانسان، نقبل هكذا بقلب مفتوح، حتى يصدمنا تواتر الأيام بوقائع ما كانت على البال ولا تهيئت لها النفس. ماذا جنينا؟ ولماذا الجحود والنكران والمبادرة بالأذى اتقاءً؟ وكيف تحول الانسان هكذا لكائن خائف متوجس يضغط الزناد على ظلك المقبل من بعيد تحسباً أن تكون عدواً. منذ متى توقف الغريب أن يكون صديقاً محتملاً؟ وكيف تحولت العيون لأحداق فارغة لا تميز الجمال ولا تبصر فرص المحبة؟ ما الذي حصل للقلب البشري فتكلس هكذا مثل جدار أصمّ لا يعي ولا يحس ولا يريد أن يعي ويحس. لماذا صرنا غرباء حتى في دواخل ذواتنا؟ وما كل هذه الأقنعة بالله عليكم؟ لماذا ازدهرت تجارة الأقنعة؟ من قال إن وجهك الحقيقي أقل جمالاً وأقل ألفة وأقل قبولاً؟ من قال إن وجهك يجب أن يشبه وجه جارك؟ من قال إن الوجه الجمعي مطلب جمعي؟ أين ذهبت الملامح الفردية؟ ماذا حلّ باتساق نسب الجمال في كل فرد؟ أين الروح المحلقة بأحلامها؟ لماذا أصبحت السعادة نكتة عصرية؟ من قال إن الحب حالة مستهلكة؟ أليست الحياة حب؟ أليس الحب حياة؟ أليس الله محبة؟ من أين جاءت القسوة التي كلّست قلب العالم؟
وهكذا حين يتصحر العالم من الخير والمحبة أتوق إلى جزيرة معزولة، نفسي العميقة تحتاج أن تسكن إلى جزيرة معزولة عن كل الحروب التي يرقص معها العالم المجنون. جزيرة بعيدة جميلة تحفّها أشجار خضراء يانعة، تسكنها عصافير مغردة، وتطل على بحر هادئ الموج، تتقافز على شاطئه طيور لقلق سعيدة. أحتاج أن أذهب بكُلّي إلى جزيرة لا أرى فيها إلا الجمال المسالم، ولا أسمع فيها إلا أصوات الطبيعة التي لم تتعلم الأبجدية لتنطق بما يخدش الروح.
أجد جزيرتي هذه في الكتب. أتطلع لمكتبتي العامرة بصنوف الكتب، أمسك رواية، أحتاج الروايات بالذات، في الروايات حبكة حياة تأخذك إلى عوالم أبعد من عالمك وحين تخرج منها تكون قد اقتربت من عالمك محصناً بواقٍ نفسي ضد الصدمات. أجد جزيرتي الغنّاء هناك، أفتح الكتاب فأدخلها، وأغرق فيها، وحين أغرق في كتاب فأنا أطفو على سطح الحياة… وأنجو من الغرق.
أداوي روحي بالقراءة، وأحمد الله على نعمة الكتب؛ مضادات اكتئابي عديمة الآثار الجانبية. أخرج من كل كتاب كائناً مختلفاً عما دخلته، كائناً أكثر اتزاناً واتساعاً واحتمالاً لتقلبات الحياة وأكثر تفهماً لأقنعة الوجوه العديدة التي تداري الخوف والطمع والجهل.
القراءة عالم آخر، عالم يُعطي بعداً أبعد لعالمك، فيصير العالم أليفاً أكثر، مفهوماً أكثر، وقابلاً لأن يكون بيت. وحين يشبه العالم بيتك تنتمي. وفي الانتماء قبض على جمرة الوجود.
Discussion about this post