من عيونهم تعرفونهم …
تحلو الكتابةُ عندما يعتقلُني النّومُ بجلبابه الصّامت … أتقلّبُ في فراشي…
تشدُّني قبضةُ هذا السّلطانِ المتسلّط الى الوسادة…
وكأنّه يريد أن يُخرسَ الكلماتِ الصّافيةَ الّتي تعبثُ بأناملِ الكسل … وتتدافعُ الى شاشةِ الواقع … كجحافل جنودٍ ،مرتزقةٍ ،زاحفة الى حربٍ، لا هوادة فيها…
أستيقظُ وقد اختنقَتْ كلماتي ، وسقطَتْ في نفقٍ… وتلاشَت مع أفواج الجنود… لتتخبّطَ في رمالٍ متحرّكة، نفثَها سلطانُ النّوم ، من آتون انزعاجِه حتى يردعَني عن الكتابة ، ويذبح فيَّ ملكَ الموهبة في مهدِه…
وهنا … ألمُ المبدع … تنزفُ كلماتُه مضرّجةً بوجعِ ولادة مختلفة…
منذ أيامٍ استوقفَتْني عينان ، أطلّت عليَّ من سيّارةٍ تَقِلُ مغتربين
عادوا الى بلادِنا هذا الصّيف …
فلوّحتُ بيدي وكأنّني أعرفُ صاحبتَهما…
وعندما في اليوم التّالي جئتُ أسقي شتولي رجِعَت تلك العينان … أين رأيتهما ؟… كانتا تتحرّكان في جسدٍ نحيل…يظلّلهما الشَّعرُ الأشيبُ الرّائع ، كأوراق الخريف …الَّذِي لم تشوّهْهُ صبغةُ العصر ِ المربكة …
توقّفَت تلك العينان وتطلّعتا إليَّ…
سألَتْني صاحبتهما: إن عرفتها؟…
ورحتُ أهامسُ وعيَ ذاكرتي لعلّها تُرجعُ لي بعض الأسماء… وفي قلبي خوفٌ من حُفَرٍ فارغة في رأسي لا تربط اللّحظات من الماضي بالحاضر …
وهل عرفتُها ؟… ربّما… غشاءٌ ما …لم يحجبْ عنّي الرّؤيةَ…
أجبتها: ” أنت من أقرباء أُمِّي ” وفي أعماقي يحملني الشّوق والحنين الى حضنٍ قد رحل الى عالمه الحقيقي …
بدأتُ أعدُّ لها الأسماء … هند… سُريّا …
قالت :”أنا ماري رفيقتك “…
كنّا ننزل معاً الى مدرسة النّاصرة … مدرستي الأولى…
تغيّرتُ عليَّ رفيقتي كثيراً …
كنّا نذهب من “ايطو”* الى المدرسة … يِقِلُنا العمُّ ” توفيق” في سيّارته …
وكنّا من كلّ الأعمار حتى نتلقّن العلمَ والثّقافة …
وقد حُرمنا من المدرسة في ضيعتي… أُقفِلتْ أبوابُها في عهدِ آخر ِأستاذ فيها…
بقي في بيته … يتقاضى معاشه من الدّولة …(هنا حذفتُ بعض ما أعرفه لأجل كرامةِ ضَيْعَتي …)
كنّا “ماري”، “نجيبه”، “سلوى” وأخريات… وأنا الصّغيرة بينهنَّ… تعانِقُهنّ عيناي لتطمئنَّ روحي بوجودِهنَّ…
وأذكرُ فيما أذكر وقت الغداء… والرّاهبة الأخت ” حنّة” تُراقبُنا وتتعجّب كيف أخلطُ في الأطعمة من ” مطبقيّة”بثلاث طبقات…وتضحكُ بملءِ رئتيها…
كنت عندما تلذعُني حلاوةُ المربّى ، أطرّي مذاقَها باللّفتِ المكبوس… ثمّ بالمجدّرة الّتي كنت أكرهُها في صغري وأصبحَتِ الآن أفخرَ طبقٍ…
ثمّ أعودُ لأتلذّذ بطعمِ أقراصِ الكبّةِ من صنعِ يدَي جدّتي الزغرتاويّة…
فكيف تريدني “ماري ” أن أتذكّرها … وقد كنْتُ في الخامسة من عمري!…
أين شعرُها المجعّدُ القصيرُ الأسود ؟… أين قامتُها الطّويلة المائلة الى ؟…أين وجهُها المستدير، المكتنز؟…
تغيّرت “ماري” عليَّ … وتغيّرتُ أنا… آهٍ من السّنين كم تمضي بسرعة !…
لكنّ عينيها ما زالتا تتكلّمان بصمتٍ أبلغ من الكلام !…
العيون لا تكبر يا صديقي … لا يخفُتُ بريقُها ولا تسكنُ شرارتُها…
لونُ العيونِ ، شكلُ الأهدابِ ، والنّظرةُ تنطبعُ كلُّها في دماغِكَ…
لن تستطيعَ تناسي تلك الذّبذباتِ النّاطقة …
إنّها لغّةُ العيون ، لغّةُ الإعجاب ،والصّدق ، والرّفقة ، والحبّ والذّكريات…
العينُ مرآةُ الذّات …
لن تُغمضَ في قلبي عيونُ أبي وأمّي اللّازورديّة …
العينُ شمسُ كونِ الإنسان… هي انعكاسُ الذّات … تصوّرُنا على حقيقتِنا…
ومن عيونِهم ” تعرفونهم!…
*ايطو:بلدة عريقة في التّاريخ
كما توجد شهادة بكتابة هيروغليفية في المتحف الوطني كان قد بعث بها فرعون مصر الى أحد ملوك جبيل ، طلبًا للحصول على كمّية من أشجار غابة “الإله ايطو”أو أدونيس بالمصريّة ،وذلك للاستفادة من خشبها لاستخراج مادّة صمغيّة كان قدماء المصريين يستعملونها في التّحنيط…
الحسناء
الشاعرة حسنا سليمان
لبنان )
Discussion about this post