الجزء الأول
بقلم د . آمال بوحرب …. تونس
يعتبر الفارابي كغيره من قدامي الفلاسفة أن الفلسفة تكون وحدة تشمل جميع نواحي المعرفة الإنسـانية ومن تلك المعارف الجانب الاخلاقي ونجد عرضاً لمذهـب الفارابي الخلقي في رسالة في التنبيـه على سبيل السعادة حيث يقول ” إن السعادة هي الغاية القصـوى التي يشتاقها الإنسـان ويسعـى إلى الحصـول عليها”وكل ما يسعى إليه الإنسان هو نظره خير وغاية الكمال والسعـادة هي أسمى الخيرات وبقدر ما يسعى اإلى بلوغ هذه الخيـر لذاته تكون سعادته كاملة والغاية الأولى من الأخلاق تحصيل السعادة .
أما أفلاطون في جمهوريته يعرف السعادة على أنها الالتزام بالمبادئ الحياتية وممارستها على أكمل وجه واعتبر أنّ الشخص السعيد هو من تجعله هذه المبادئ أفضل حتى يغدو فردًا فاعلاً وذا قيمة في المجتمع فهي أحد أشكال نمو الشخصية بمعنى أنها تتحقق للإنسان كلما شعر بالرضا من الإنجازات التي يقوم بها والتي ليس بالضرورة أن يكسب شيئًا منها.
ولكن هذا المفهوم تعرض كذلك إلى النقد كغيره من العلوم المعرفية البناءة التي تحتاج العرض والنقد للفكرة بأخرى وإقامة الدليل فالسعادة “عند بيرناند راسل” لها مفهوم مغاير فالشخص السعيد من يعطي وينال الخير والرضا بسبب عطائه في حين اعتبر أنّ الشخص التعيس غير السعيد هو ذلك الفرد الذي تشغله حياته ومهنته وصورته أمام الآخرين أما نيتشه فقد اعتبر أنّ السعادة شكلٌ من أشكال السيطرة التي يتمتع بها المرء ويفرضها على محيطه وأنّ الإنسان ينالها من كدحهِ الجاد وسعيه المتواصل فقط ولابد أن نشير أن السعادة لا يمكن تناولها
إلا بارتباطها بالأخلاق والفضائل التي تحتويها
وإن حددنا أربعة أجناس للفضيلة كما ذكرها الفارابي
وهي الفضـائل النظرية و الفكرية الخلقيـة والصناعات العمليـة والفضـائل النظرية هنا تعني العلوم ومنها ما يحصل للإنسـان منذ أول أمره بالمعرفة اي المبادئ الأولى للمعرفة ومنها ما يحصل بتأمل وعن فحص واستنباط وعن تعليم وتعلم واول هذه العلوم المنطق ثم يليه البحث عن المبادئ الموجودات فلا يستطيع الانسان أن يبلغ الكمالات وحده وبانفراده دون المجموعة
لذلك يحتاج إلى مجاورة ناس أخرين واجتماعه معهم ويحصّل العلم الإنساني والعلم المدني أما الفضائل الفكريةو هي تلك التي تمكن من استنباط ما هو الأنفع في غاية فاضلة لذلك وهي اشبه أن تكون قدرة على وضـع النواميس وهي غير مفارقة للفضـائل النظرية غير أن ما يعزز كل هذه التداخلات المعرفية للفضيلة تلك الفضائل الخلقيـة التي تلتمس الخير وهي تأتي بعد الفضـائل الفكـرية لان هذه شرط لها وهي بالطبع , يقول الفارابي في ذلك
{ فالفضيـلة النظـرية والفضيـلة الفكـرية العظمى والفضيـلة الخلقية العظمى والصناعة العلمية العظمى إنما سبيلهـا أن تحصـل فيمن اعد لها بالطبع “ولعلنا نتفق أن من أكثر الفضائل طلبا للذات البشرية هي فضيلة الصبر ،رغم الاختلاف أحيانا حول هذا المفهوم من حيث المراجع الدينية أو التاريخية فإنا نتفق معرفيا على أنه يقين المعارف ُ القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى أصول الدِّين وهو العملُ بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفنا أن المعصيةَ ضارة والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر وهو استعمال باعث الدِّين في قهر باعث الهوى والكسل، فيكون الصبر نصف َ الإيمان فقط والأحرى به أن يطلق على الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف ذاتها فقط فما جدوى أن أعرف معنى الصبر ولا أطبقه يقول الله -تعالى- في سورة هود: (وَاصبِر فَإِنَّ اللَّـهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ).
والحقيقة أن الصبر كان ولا يزال ركيزة المؤمن في كل الديانات يقول في كتابه المقدس” وَلْيُعْطِكُمْ إِلَهُ ٱلصَّبْرِ وَٱلتَّعْزِيَةِ أَنْ تَهْتَمُّوا ٱهْتِمَامًا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَكُمْ، بِحَسَبِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.رومية 5/15″.وهو من هذا المرجع محور الاهتمام الكوني والشواهد كثيرة ولكن القيم تحتاج إلى طرح الأسئلة والإجابات والعمل مع استمرارية البحث .
إن البحث في الأخلاق بحثا فكريا متزامنا مع الطروحات الآن تعتمد على قوة تأثيرها ، يؤكد “كانط “منذ بداية كل مؤلف حول الأخلاق بأن السيكولوجيا ليست أرضًا صالحة للبحث الأخلاقي وأن الأخلاق لا تقوم على عناصر تجريبية أو حسية فهي مبادئ نقية لا يعتريها فساد العالم وتغيراته حتى يظفر بذلك بنتيجة صارمة تنص على أن الفعل الأخلاقي غاية في ذاته وليس وسيلة وفي تعاملات الإنسان مع أخيه الإنسان يجب أن يسلك معه كما لو أنه غاية فتكون النتيجة العملية هي أن الفعل الأخلاقي فعلٌ لا مشروط فالصبر يكون من هذا المنظور فعل اخلاقي غير مشروط بما سيتحصل عليه فاعله مثل الرضا او محاولة التحرر من أجل تحقيق الهدف المعرفي او الاجتماعي دون تردد بعد التشبع بالمفهوم نفسه .
يعتقد كانط أن أعظم خير للبشرية هو فضيلة أخلاقية كاملة جنبًا إلى جنب مع السعادة الكاملة والأولى هي شرط استحقاقنا للأخيرة دون اعتبار للرفاهية التي قد ينتظرها الإنسان والتي قد تتعارض مع الفضيلة الأخلاقية
ولعل هذا الاختلاف ما قصده “زهير قوتال “في كتابه عن المفهوم الفلسفي عند” جيل دولوز “الذي يراه فيلسوفًا شديد الفضول ليهتم بكل ما يشكله حاضره وينتجه عصره إذ وجه جلّ فكره نحو الأفكار المطلقة في البحث فكتابته تتجاوز الأماكن الفارغة من المعنى وهذا ما يؤكد أن الإختلاف في المعارف ثورة في حد ذاتها نحو التقدم المعرفي للمفاهيم .
لقد كان للفلاسفة عبر كل التوجهات المعرفية تصورات مختلفة عن ماهية الصبر يقول الغزالي “اعلمْ أن الصبر مقامٌ مِن مقامات الدِّين ومنز ِل من منازل السالكين وجميع مقامات الدِّين إنما تنتظم من ثلاثة أمور: معارف وأحوال وأعمال فالمعارف هي الأصول وهي تور ث الأحوال والأحوال تثمِر الأعمال فالمعارف كالأشجار والأحوال كالأغصان والأعمال كالثمار وهذا مطَّر د في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى “وعليه فإن الصبر ُ لايتم إلا بمعرفة سابقة وبحالة قائمة”
والدليل هنا يقوم على جدلية المعرفة بالشيء وممارسته فالذي لا يعرف الفقر لا يعرف الصبر والذي لا يعرف الالم لا يعرف الصبر والذي لا يعرف الحرمان لا يعرف الصبر والذي يعيش بأمان لا يعرف الصبر لان المفاهيم المطلقة لا تشعرنا بالوجود المادي فالصبر مع المثابرة يختلف عن الصبر بمفهوم “كونفوشيوس “القائل “لاتقتل عدوك بل اجلس على حافة النهر وستحمله لك الأمواج طافيا يوما ما “وهذه هي المعضلة الحقيقية التي يعاني منها الأفراد في مختلف المجتمعات
وعليه فإن القوانين الأخلاقية ملزمة بالضرورة بأن يساهم الأفراد في تشريعها بإرادتهم الخاصة عن طريق الهيئات التمثيلية ويلتزمون بها كواجب أخلاقي قطعي بغض النظر عن تلبيتها أو عدم تلبيتها للمنافع الذاتية فاذا أسلمنا أن الصبر وهو من بين هذه القوانين الأخلاقية ثمرة الحكمة واساس الحكمة العقل والتجارب فهل يمكن القول أن الشخص الذي يُمكنهُ إتقان الصبر يُمكنهُ إتقان الحكمة ؟
Discussion about this post