للكاتبة التونسية عشتار بن علي
في مثل هذا الشهر وتحديدا في اخره اي مع بداية الربيع كان يوم مولدي –جاء ممطرا وشتويا بامتياز بعد تباشير الغيوم المعلنة عن حفل بهيج عزفت فيه السماء لاحقا احلى أناشيدها بامتياز فجددت الامل واثارت في القلوب الفرح والاشجان والحنين والاحساس بقوة البدء داخل نفوس أنهكها عذاب اجتياح الجفاف والشتات -أنهكها ملل طول حلقات مسلسل الصبر القاتل بصمته –
كنت اراقب انهمارالمطر من خلف نافذة شرفة بيتي في الطابق العلوي وجها لوجه مع السماء برحابتها وكانها تهمس لي ها أنا أفتح أبوابي فبوحي لي بما شئت -انا ستر وغطاء لكل المتعبين -انسي غدر الغدارين ونكران الناكرين وجشع الطماعين الانتهازيين -كانت نقرات قطرات المطر المهيبة على الزجاج بما تبعثه في النفس من احاسيس مختلفة ومتناقضة وجوم مع فرح مع شجن مع احساس بالسكينة اشبه ما تكون بوحي من قوة عليا وحدها قادرة على اثارة تلك الماتناقضات بدواخلنا
يوم امس كان الكون شهيا والوطن اجمل –كان الشارع اطهر وانقى والارض أكرمت وفادة الغيث ففاحت ندية متنشية بالماء و على معزوفته المقدسة رقصت –معزوفة اشهى سقوط في الكون ذلك السقوط الذي يهمس في الاذان والقلوب اليائسة بان تتفاءل وان الحياة مستمرة وان لا يأس مع وجود الأمل -ذلك السقوط الذي تنتعش له النفوس وتتهلل له اساريرالفلاح الذي انتظره على احر من الجمر .
في تلك اللحظات واثناء حالة التأمل والسكون تذكرت الشعب الفلسطيني وما يعانيه سكان غزة في محنتها ومعاناتها في هذه الايام الشتوية الباردة وهذا الصقيع الذي بحلوله اكتمل مشهد الشقاء الانساني – تذكرت الطفولة المرتجفة ذاخل الملابس الصيفية او البالية -تذكرت الاجساد التي لا تملك الا ان تتعانق لمقاومة القر والعراء ونقص الزاد والاغطية-مخرّف أنت يا من تردّد بفرح وانتشاء أبله وتفاؤل أحمق ان الشتاء وليف المحتاجين فاعتقادك هذا ينطبق على الاحوال والاوضاع العادية للبشر حيث يمكن للمحتاج ملئ بطنه وبطون أطفاله بأي نوع من الحساء والبقول الرخيصة ويكسي أجسادهم بما تجود به أسواق الثياب المستعملة والروبافيكا والبالة القادمة من بلدان الصقيع.
كلامك ينطبق على المحتاج الذي رغم فقره لديه بيت وحيطان وسقف يحتمي به فيهرع الى اغلاق باب بيته و شبابيكه حتى لا تتسرب تيارات الهواء ومياه الأمطاراليه ثم ينام قرير العين -بالكاد يتدبر طعامه وطعام يوم عائلته ليمر شتاؤه رغم اجرام المحتكرين وجشع المستكرشين – نعم يمر شتاءه سعيدا رغم ضيق ذات اليد -رغم الفقر وحفر الطريق وأوحاله – رغم كيد الكائدين.-يمر شتاؤه سعيدا رغم عدد اطفاله الذي لا يتسع له بيته على سبيل الايجار وسقفه البالي فالدفئ العائلي والاحساس بالأمان والطمأنينة كفيلان بجعله يأوي باكرا الى فراشه المترنح ضاربا عرض الحائط المثل الصيني القائل –
ليس من الحكمة أن تأوي إلى فراشك باكرا كي توفر الشموع ثم تنجب توأما بعد تسعة شهور–هذا هو شتاء المحتاج في العادي من الايام والأوضاع لكن للشتاء وجه اخر بشع وموجع –انه شتاء فلسطين -شتاء غزة في محنتها – ماذا عسى الانسان هناك يفعل -ماذا عساهم يفعلون طريدو الأوطان وساكنو الخيام البالية وهم يلتحفون العراء والقصف -ماذا عسى الواحد منهم يفعل لجسده واجساد اطفاله الهزيلة التي يفتك بها الجوع والبرد ويجعلها طريدة الموت قصفا في اي لحظة او نهشا لأمراض الشتاء القاتلة او الجوع .
ماذا عساهم يفعلون وهم المقيمون في مخيمات تجتاحها تيارات الهواء فيبيتون لياليهم مرتجفين مصطكي الأسنان مهزوزي الأبدان والأرواح بسبب قلة المنام مسغبة وخوفا وبردا يخترق العظام وقد اعتادت انوفهم على رائحة الدم والاشلاء المحروقة والردم والحطام -ماذا عساهم يفعلون في الليالي الماطرة والعاصقة فلا كهرباء ولا غاز –يا الله –يا رب موسى وعيسى ومحمد ارحم اكبادهم وبطونهم الجائعة -ارحم اجسادهم العارية -ارحم ارواحهم المرتعشة الخائفة وأعينهم الحيرى الهائمة
تبددت نشوتي وتلاشى فرحي وكدر صفو لحظتي الاحساس بالذنب – قلت لنفسي يا لرومانسيتك البلهاء يا لحساسياك الكاذبة -تتأملين وتستمتعين بمنظر المطر من خلف الزجاج وانت تتدفئين وتنعمين بما لذ وطاب من الاطعمة والاشربة الدافئة وهناك في تلك البقعة من الارض يموت الالاف عراة جوعى او مسحوقة اجسادهم تحت الردم والنار –تذكرت ما كتبه الشاعر محمود درويش:
كان لي في المطر الأول
ياذات العيون السود
بستان ودار
كان لي معطف صوف
وبذار
تملكني الحزن وخيمت على نفسي الكـآبة بعد النشوة ولم ينقذني منها الا اشعة الشمس التي انارت كامل الغرفة فجأة –نعم اشرقت وتلألات -سطعت الشمس فاضاءت الكون رغم ان المطر كان ينزل مدرار في تفس الوقت الشيء الذي جعل قلبي يتهلل فرحا -ضحكت وقلت بصوت عال انه عرس الذّيب فيا لجبروتك وسطوتك ايتها الطبيعة- في لحظات قليلة تحكمت في مزاجي كما تشائين وكما يحلو لك بين وجوم وسكينة وفرح وكآبة ثم فرح ومرح من جديد -الكلمة الاولى والأخيرة لك ايتها الجبّارة وسوف احدثكم الان عن حكاية عرس الذئب او عرس الذيب كما ننظقها بالعامية عرس الذئب .
وهي أسطورة أمازغية كثيرا ما رددتها الأمهات والجدّات حول هذه الظاهرة الكونية التي لم اعرف لها الى حد اليوم تفسيرا علميا وهي ظاهرة سطوع الشمس فجأة اثناء نزول المطر تقول تفاصيل الأسطورة أنه في القديم كان هُناك ذئب بلغ سن الزواج لكنه كان يرفضه و يتهرّب منه خوفا من المسؤوليةوهو العاشق لحياة السهر والترف والحرية الا ان عشيرته من الذّئاب ضيقوا عليه الخناق وحاصروه بالإلحاح والتهديد لاجباره على ان يستحسن كما نقول بالعامية وان يكمل نصف ديته الذّئبوي والا فان الطرد والنفي سيكون مصيره مما اخافه .
وهو الكائن الإجتماعي الذي ليس يمقدوره ان يعيش منفردا بعيد عن قبيلته رغم عشقه للحرية الأمر الذي جعله يرضخ لكنه وضع شرطاً تعجيزياً ظن أنه يستحيل أن يتحقق، فقال لشيخ القبيلة لن أتزوّج إلا في يوم تتساقط فيه الأمطار وتكون الشمس ساطعة، والسماء زرقاء، وتظهر فيها “تمغرا ن ووشن” وتعني بالامازيغبة عروس السماء -وهي تطلق على حالة الجو أو الطقس، التي تتميز بسقوط المطر و اشراق الشمس و ظهور قوس قزح في نفس الوقت.
كان الذئب ماكرا في شرطه لكن الطبيعة كانت امكر فخيبت ظنه وهزمت دهاءه وكان ذلك عندما ظهرت السُحب في السماء وبدأت الأمطار تتساقط، ثم سطعت الشمس فجأة وظهرت عروس السماء “تمغرا ن ووشن”، أيقن الذئب آنذاك أن لا مفر من الزواج و كان ان نظمت له عشيرته حفل عرس صاخب حضره كل حيوانات الغابة بل حضره حتى بعض احبابهم ومقربيهم من البشرالذين .وثّقوه وتداولوا اخباره وخلدوه ولذلك كلما حلت هذه الظاهرة الكونية اي امتزاج المطر بالشمس يقال انه عرس الذئب –من يدري ربما في تلك اللحظة هناك ذئب متمرد بصدد الاحتفال بزواجه هو وعشيرته وتلك العواءات المفاجاة قد تكون هي مواويلهم وزغاريدهم اما الرقض فلكل بلاد ولكل شعب ولكل عشيرة وكل كائن طريقته التي تميزه في الرقص.
Discussion about this post