بقلم يوسف مسلم … مصر
1
أنا صيّادُ سمكٍ؛
يَحمِلُ البحرُ لي كلَّ صبيحةٍ جنيةً ترقصُ،
وأنا أُطعمُ القططَ كلَّ ما اصطدتُهُ في الليلِ،
ثُمَّ تَمضِي لأنَّ هُنَاك صيَّادًا آخرَ
ليْسَ لديْهِ قططًا يُطْعمُهَا،
وإِنَّمَا لديْهِ غيلانٌ تأكلُ الأحلامْ.
أتكوَّرُ بيْنَ الصخورِ حينِ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ
كيْ لاَ يُبدِّدُني البَخْرُ،
فأُصبِحُ سَحابةً تُزْكي نَارَ الحَرْبِ.
حقًا إِنَّ العَالمَ لاَ يَسْتَحقُ الشَّفَقَةَ
لكنَّني أعْتَقدُ أنَّه أقلُّ مِنْ أنْ أُصبِحَ مُجْرمًا بسببِهِ
لذَا سَأزُمُّ فَمي علىَ نِصْفِ ابْتسَامةٍ
ومَسَبةٍ دَاعِرةْ.
2
الشوارعُ مسبلةٌ عُيونُها
والسماءُ متفسخةٌ كجُثّةٍ مُهمَلةٍ على خَشَباتِ المَسَارحِ
الشَّبَابيِكُ في وُجوهِ البِنَايَاتِ جَاحِظَةٌ وحَمرَاءُ،
منْ سَهرِ ليْلةِ البَارِحةْ،
يَطقُّ منها شررُ الفَضيحةِ.
ثُمَّةَ عاشقٌ يَقفُ الآن أمامَ محطةِ المترو،
لا يضعُ ساعةً في مِعصمِهِ،
ومَع ذَلكَ يَقْرِضُ شَفَتَه السُّفلىِ
كيْ يُؤرّقُ حَبيبَتَه التي تَأخرتْ عَنْ مَوْعِدِها،
فصارَ قلبُهُ نهبًا لدخانِ القنابلِ.
ومناشرُ الغسيلِ تُقيِم حوارًا سريًّا بينهَا وبيْنَ الغِبَارْ،
بعدَ هدأةِ المظاهرةِ ومُضيْ الجنودِ، وهُم يجاهدونَ،
كيْ لا يَسيلَ منْ مُؤَخِّراتِهم اسْتمْنَاءُ الجِنرَالاتْ.
وأنَا ذَاهبٌ إلىَ بَائِعِ الجَرائِدِ
أشتري خبرًا مِنْ الموتْ.
كيْ أُعلقُهُ علىَ جِدارِ بِنايةٍ حُكُوميَّةٍ،
ليَتَحرَّشَ بكَآبةِ المُوظَّفينَ الَّذينَ يُمعِنُونَ فيِ حَشْوِ
شَرَايينَ الوُجُودِ بالمَلَلْ.
3
مَوْتَاي لاَ يُجيِدُونَ الاحْتِراقْ
إنَّهم يتَعَنْقَدُونَ
كثُريَّاتٍ مُدلَّاةٍ منَ السَّماءِ
تُضَاءُ بوَهَجِ الحَليبِ منْ أثْداءِ الأُمَّهاتِ
مَوْتَاي
لاَ يَمْتَثِلوُن لإِرادَةِ الله
4
تَبارَكَ الموْلىَ إلهُ الحربِ، حِينَ يَتَجلّى عَلى رعايَاه المُخْلِصينَ،
وَهُم يَحُجُّون إِلى مَخْزنِ سِلاحِهِ.
وَقتَها سَأكُونُ جالسًا فِي أكثرِ خَمَّاراتِ القَاهِرةِ وضاعةً،
أقرضُ الأوراقَ كفأرٍ بارعٍ في الكَذِبْ،
وأُحدِّثُ السَكَارىَ عَن البَارُوديَا، والتَفكيِك، وحَدَاثتِنا الشريدةِ.
ثُمَّ أُسبُّ دينَ آبائِهم مِنْ فوقِ بُرجِ بابلْ،
لأنّهم حَمقىَ لا يَفهمُونَ ما أقولُ.
ثُمَّةَ مُومساتٌ حزيناتٌ على الرصيفِ الآخرِ مِنْ الشارعِ
سَأدعُوهنَّ إلى كئوسٍ مِنْ البراندي دُونَ مقابلٍ
سِوى أَنْ يَمسحنَ مَساحيقَ وُجوهِهنَ
التي أفسدَهَا استمناءُ الزمنْ.
سَأحكي لهنّ حكايةً عَن الملكِ الذي قَبل أَنْ يموتَ؛
لابدَّ أَنْ نُجهِّز البيادقَ للنحرِ،
والعَطَشُ الهَاطِلُ علىَ شِفاهِ الفُقَراءِ؛
سَجَاجِيدَ تَحْمي أحْذيَةَ الجِنرَالاتِ فِي جِنَازتِهِ العَسكَريةِ.
سَأخْبرهنَّ أَنْ الجوعَ لَيْسَ أكثرَ مِن صَنَاديقَ اقْتراعٍ،
لاختيارِ مَلكٍ جَديدٍ،
لأنَّ هذا مَا يَليِقُ بجِنَازةِ أَرَّقِ قَتَلةِ العَالمِ.
5
خَلْفَ مِرحَاضِ المَقْهىَ يَنْتَظِرُني صَديقٌ قَديمٌ،
بزجَاجَاتِ السْتِلا، وأَطْبَاقِ الفُولِ السُّودَانيّ،
وعَشَراتِ النِكَاتِ الإبَاحيّةِ،
وذِكرىَ عنْ شُرَطيٍّ ضَربْنَاهُ معًا مُنذُ عِشرينَ سَنةْ.
سَأتقيأ دمًا ثُمَّ أقولُ لهُ:
مًا جَدْوَى القَصيِدةُ إنْ لمْ تُدمْ شَاعِرُها؟
خلِّ نظراتِكَ المُشفِقةَ لأحدٍ غَيْري وابْتَسمْ يَا صَديقِي.
هذِهِ الكُحّةُ بِنْتُ كَلبْ
سَأحاصِرُها بسيِجَارةٍ، ونُكتةٍ فَاحِشةٍ عنِ الموتِ:
الَّذينَ لا يُدخنُونَ يَا صَاحبي
يموتونَ بصِحةٍ جَيّدةْ.
6
سَأربطُ على سُلّمِ بيتِنا نظرةً مُستَعْمَلةً
تُضللُ المخبرين في نوباتِ تفتيشِهم
ثُمَّ أستدرِجُ التنانينَ تَحتَ وِسَادتيِ
كيْ تَحمي أَحْلاميِ مِنْ غلاظةِ أصاَبِعِهم
وبجيوبي المليئةِ بالأغصانِ المثقلةِ
أقاومُ الخَواءَ علىَ طَريِقةِ كَاليِجُولاَ
كَاليِجُولَا لمْ يَكنْ طاغيةً
لكنّه حِينَ فَشَلَ
فِي أَنْ يَجعلَ مِنَ الإمبراطورِ مُربّي فراشاتٍ
أدركَ أنّه لَا يَملُكُ أمرًا
في دولةٍ يَحكُمُها إله الحربِ
فامتَثَلَ للوصايا الإلهيةِ
رُغمَ أَنّه مُلحدٌ.
7
الساعةُ الآنَ الثالثةَ عصرًا،
لا أنتظرُ أحدًا،
ولا أُنصتُ لتَهَامُسِ أُخوَتِي وَهُم يُشَيّعُونَنَي
مُحملاً برسائلِهِم إلى والدِي
سَأضحَكُ حتىَ تَأْويِ العَوَاصِفُ إلى أعْشَاشِهِا بَيْنَ أسنَانِي
فلا يكونَ ثُمَّةَ غُيُومٌ على الرَّصيفِ
ترفعُ ذُيُولَها كطَوَاويسِ حَمْقَاءٍ
تخرأُ أحلامًا سَاذَجةً عنِ العَدَالةِ الاجْتِمَاعيّةِ
سَأطوُيِ النَظَراتِ الطَّازَجَةَ دَهْشتُها تَحْتَ إِبطِي
كيْ أُهربُها إلى عالمٍ يليقُ بِهَا
عالمٍ لا يَسْتَوجِبُ منْ كُلِّ شَيْءٍ
أنْ يَبْقىَ مُهَذبًا أمَامَ جَلافةِ السَّمَاءِ.
Discussion about this post