عزيزي القاريء: احذرْ الوقوع في شَرَكِ هذا المخطوط الشعريّ؛ فتلك البنتُ “الدغارية” تمتطي حصان النثر، وتقتفي أثر اللغة، وترسم الصورة متعددة الزوايا والأبعاد، لتظهر اللوحة الشعرية في الأخير واقعية سحريّة، لكن المحتوى يؤكد أن الشاعرة لا ترى من الحياة غير الأبيض والأسود.
إنها امرأة لا تنام، إلا حينَ تضع سِنَّ قلمها في محبرة القلب لتكتب مقاطع من سيرتك/ها/هم الوجدانية، لتستيقظ كلّ صباح حافية القدمين على شاطيء اللغة ترمي شِباكها، فتصطاد لاليء المعاني، وتضيء بقناديل الكلمات مصابيح القصائد، وتشعل حطب القصائد السابقة التجهيز، والحكايات المعلّبة، في أتون محرابها، وتُلقي ديدان البلاغة القديمة لطيور النورس.
تلك السيدةُ الليبية “بنت المختار” لا تفتح أبواب قصائدها، ولا تستسلم لعذابات المتعلقين بأستار نصوصها، ولا تغفر للسائرين نياما في محراب كلماتها؛ إنها تتخذ من النثر منصةً لإطلاق سِهامها، تصيب القلب ولا تخطئه، وتخمش الواقع بأظافر الكلمات ولا تتركه، وتنحتُ اسمها على جدران المعاني، وترسم لوحة شعرية دامية على حوائط المشاعر، وتحيل اليوميّ إلى مشاهد ومُنمنات متداخلة الخطوط، وتنسج أفكارها بخيط من حرير.
عندما نقرأ متون هذه سهام الدغاري من (بنغازي) سنجد كلَّ نصّ ينطلق كسهم لا يعرف المراوغة، ولا يجيد التفلّت من بين ظهراني العقل، ولا ينسلّ من أسر الوجدان. ولكن على القاريء أن يحترس عند الوقوف على فاصلة في متن النص، فهناك قنبلة شعرية موقوتة، ولا تقفْ كثيرا عند أدوات التعجّب المستندة على علامات الاستفهام فخلفها كمينُ منصوب للمجاز، ولا تركن إلى النقاط الفارغة بين الجمل الشعرية؛ فهي فِخَاخٌ معدَّة لاصطياد الصور الشعرية الطريفة. مثل قولها: [(يعرف كيف يحافظ على جراحاته نيئة/ليعود لطبخها على مهل/بعد أن يعجز عن مقاومة أساه الكثيف/وبعد أن يستشيط حزنه/فيرغي ويزبد ملقياٍ به في قبضة الموت الأخير/هذا الموت يصنع له حيوات أخرى/يضع فيها الكلمة على الكلمة/والذنب على الذنب/والصفح على الصفح/وقبل أن تنعيه الرياح/يتكاثف/فيصير جبلاً من شعر)]؛ فاللغة عند سهام الدغاري ألفاظ متناسلة، وصور سريالية، ومعانيها قُدَّتْ من قاموس مشرعةٍ أبوابُه على فضاءٍ لا متناهٍ من المصطلحات، والكلمات الطريفة تتوالد في شكل نصوص طويلة؛ السّرد التعبيريّ واسطة عقدها، والنثر الحديث شكلها، والإيقاعُ حشوها، والموسيقى الداخلية متنُّها، والصورة الوحشية إطارها، واللغة وتراكيبها البسيطة مركبُها.
إذا كان القاريء المُتمرِّس لا يُلدغ من كتاب مرتين، فعلى القاريء المبتديْ أن يحترس ألف مرة من نصوص سهام الدغاري المغموسة في سُمِّ الوحشة، والمشدودة في قوس الغربة، والاغتراب، المحمولة على كتف السّرد؛ إنها تمرق بسِنانها في سويداء القلب فترديه عاشقا أسيرا لا سبيل لفكِ إساره، ولا طريق للخلاصِ من قيدِ الوِلهِ الذي أحاط بنياطه.
وفي محاولة لتوصيف أو وضع سمات محددة لنصوص سهام الدغاري يمكننا القول بأنها تكتب ما يجثم على صدرها من كوابيس ليلية ومكبوتات نهارية ولا تضع القارئ في أجندة حساباتها عند الكتابة، ولا ترى أن الشعر له من القداسة ما تجعل الشاعر فوقيّ وعلى القارئ أن يمر بمعاناة كالتي عاشها الشاعر للوصول إلى المعنى، وإذا كان الشعر قد تفصّد وتبعثر في كلّ الفنون، فنجده في السرد، ونجده في السينما، ونجده في الفوتوغرافيا، كما نجده في المسرح؛ بمعنى أنّه حتى وإن كان يوجد نصّ شعريّ محض إلا أن الشعريّة موجودة في كلّ الفنون والألوان بنسب مختلفة وقد لاحظنا في نصوص سهام الدغاري دفقات شعرية في ثنايا السرد وهي نفسها لا تدري أيهما يطغى على الآخر عند لحظة الكتابة.
لقد تركت الحرب الأهلية في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي آثارها على جسد قصيدة سهام الدغاري؛ بل وقعت سهام بين سندان المنفى الاختياري في القاهرة ومطرقة الحرب في ليبيا.. حيث كان لا سبيل للنجاة، وفي ظل حالة الوهم والاستلاب التي تتلبس النخبة الثقافية العربية، فتبدو متلبسة ومهمومة بالواقع، وتعتقد – واهمة – أنها تؤدي دورها الثقافي والاجتماعي، نجد سهام الدغاري تؤمن بأن الشاعر في عصر ثورة المعلومات والتدوين الإلكتروني فقد (نبوءته)، و(كفرت) الأجيال الجديدة بدوره التنويري وتمردت على وصايته الكاذبة.. نجد هذا الاتجاه عندما نقرأ لها:
وفي الأخير.. صديقي القاريء حاول أن تتفادى السهام وأنت تقرأ لسهام الدغاري فقد تغدو قتيلا أو أسيرا بين قصيدة وضحاها.
Discussion about this post