كان حبشى جرجس قد عاد من إنجلترا عام 27 بعد أن أمضى بها 5 سنوات أتم فيها دراسته للهندسة اللاسلكية ، وعاد ومعه مجموعة من أجهزة الراديو تدور بالبطارية ، وراح يهديها لأصدقائه ولكنهم لم يهتموا بها فلم تكن هناك محطة إذاعة عربية يستمعون إليها .. لم يكن فى مصر وقتها سوى 400 جهاز راديو يملكها الأثرياء الأجانب يستمعون منها إلى محطات الإذاعة الأجنبية التابعة للمحتل .
فكر حبشى فى إنشاء محطة محلية لكنه لم يكن يمتلك ما يتيح له إستيراد محطة من الخارج فلجأ إلى وكالة البلح باحثا عن أجزاء محطة من مخلفات جيوش الحرب العالمية الأولى ، وفى محل إلياس شقار بوكالة البلح عثر على بعض الأجهزة التى تنفعه كانت فى طريقها للصهر وإعادة سبكها أدوات منزلية .. صارح حبشى صاحب المحل إلياس بحاجته لهذه الأجهزة لإنشاء إذاعة محلية لكنه لا يمتلك ثمنها .. وافق إلياس على منح حبشى الأجهزة بالإضافة إلى 600 جنية على أن يصبح شريكا فى محطة الإذاعة .
وفى شارع فؤاد بشبرا فى منزل الشريك إلياس إكتملت المحطة الإذاعية ، وبعد تجارب كثيرة ومرهقة نطقت الإذاعة لأول مرة ، وإختار الشريكان شقة بشارع الجيش قرب ميدان القبة لتكون مقرا لأول محطة أهلية .. دب الخلاف بين الشريكين على الإدارة فإنسحب إلياس وحل محله كلا من الدكتور أحمد فريد الرافاعى ” مدير المطبوعات لاحقا ” ، وإسماعيل وهبى ” شقيق يوسف وهبى ” ، وإنتقلت المحطة إلى منزل الدكتور الرفاعى فى شارع النجوم بحدائق القبة .
كان الإشتراك فى المحطة نص ريال ، ووصل الإيراد اليومى للمحطة 10 جنية ، وكان من إمتيازات المشتركين أن تلتزم المحطة بإذاعة الأغنية التى يطلبها المشترك شريطة أن يذكر فى خطابه المرسل للمحطة رقم إشتراكه ، ومن المطربين الذين كانوا يذاع لهم أغانيهم صالح عبد الحى ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وبديعة مصابنى وفريد الأطرش وأسمهان وغيرهم ، وكانوا لا يتقاضون أجرا مقابل حق الإذاعة .
حدث أن زارت المحطة سيدة ودفعت 50 جنية دفعة واحدة كإشتراك منها فى المحطة على أن تذيع لها المحطة إسطوانتين ” الجو رايق لـ عبد الوهاب ، فى الجو غيم لـ صالح عبد الحى ” على أن تقوم المحطة بقطع ما تذيعه وتذيع إسطوانة من الإثنتين تحددها السيدة فى الوقت الذى تريده بالتليفون .. إستمر الحال لفترة السيدة تتصل وتطلب ما تريده والمحطة تقطع الإرسال وتذيع ما تطلبه السيدة ، وفوجئت المحطة يوما بالبوليس يحاصرها ويفتش المحطة ويقبض على حبشى جرجس وتستدعى عبد الوهاب وصالح عبد الحى للتحقيق فى النيابة .. ومع التحقيق إكتشفوا أن السيدة تتزعم عصابة تهريب مخدارات وكانت تراسلهم عن طريق الإذاعة فأغنية عبد الوهاب ” الجو رايق ” تعنى أن الوقت مناسب للتهريب ، وأغنية صالح عبد الحى ” فى الجو غيم ” تعنى أن البوليس لهم بالمرصاد .. ترافع عن الإذاعة والمطربين أ. إسماعيل وهبى وثبتوا حسن نيتهم فى التعامل مع السيدة .
وكانت برامج المحطة تبدأ فى السابعة صباحا بتلاوة القرآن الكريم ثم نشرة الأخبار ثم التعليق على الأنباء ثم إذاعة إسطوانات غنائية ثم برنامج ” ما يهم المرأة ” وكان يعده ويقدمه أحد تجار أدوات الزينة والتجميل متطوعا بل كان يدفع للمحطة 3 جنية شهريا مقابل أن يقوم بالدعاية فى برنامجه لترويج أدوات الزينة التى يبيعها ، وفى السهرة برنامج ” طبيب العيلة ” وكان يقدمه الدكتور عبد الفتاح محمد القاضى يتحدث فيه عن الأمراض الشائعة ويجيب عن أسئلة المشتركين ، وفى نهاية البرنامج يعلن عن عيادته .. وفى رمضان كانت المحطة تقدم فوازير ، وكانت الجوائز تقدم من بعض المحلات التجارية على سبيل الدعاية .
وفى 31 مايو 1934 منحت الدولة لشركة ماركونى إمتياز إنشاء محطة الإذاعة اللاسلكية ، فصدرت التعليمات الرسمية بغلق المحطات الأهلية ومصادرتها ” تأميمها ” ، وعينت الحكومة حبشى جرجس موظفا فى الإذاعة الحكومية لكنه سرعان ما تقدم بإستقالته بسبب مهندسين المحطة ” كلهم أجانب ” كانوا يتعمدون الإساءة إليه بمناسبة وبدون مناسبة .
Discussion about this post