أحبكِ؛ قالها، وعندما نظرت إليه، أرخى بصره؛ يطالع الجريدة، وراح يقلّب صفحاتها. لم ينظر نحوي، حتى ظننت أنه لم يقلها.
هل كان يحدث نفسه، هل قالها حقًا، أو أنني لشدة لهفتي لسماعها توهمت ذلك. وإن قالها، هل كان يعنيها حقًا؟ إذن لمَ لم يقلها لي كما ينبغي؟ أم أنه قالها كأداء واجب، وهو الحريص على أداء واجباته كلها.
كنت قد صرخت في وجهه باكية ليلة البارحة: إذا لم تكن تحبني، فلمَ تزوجتني؟!
كانت المرة الأولى التي أصارحه فيها بعد عام من الزواج الصامت. شعرت أن كلماتي صعقته، أو ربما عرّته أمام ذاته، فالتزم الصمت من حينها، ولم ينبس بكلمة.
فهل حقًا قالها الآن؟
انتبهت أنني كنت أحدق فيه، ولكنه تظاهر بانشغاله بالجريدة. أكملت طي الملابس، وأعدتها إلى الدولاب، ثم غادرت الغرفة.
تمنيت أن يكررها حتى أسمعها جيدًا، أو أن يطلب مني البقاء ويطبطب على قلبي، لكنه لم يفعل.
انسحبت إلى الحمام، ملاذي الوحيد الذي يمكنني أن أبكي فيه كما أشاء.
بكيت…
حاولت عبثًا كتم نشيجي حتى لا يصل إليه، فتحت صنبور المياه حتى يشوش على صوت بكائي.
كنت أعرف أنه يدرك كل شيء فقد كنت أخرج أحيانًا محمرة العينين متورمة الجفون، وكان يتحاشى النظر إلي، ويتظاهر بأنه لا يلاحظ شيئًا.
عندما خرجت من الحمام كان قد غادر البيت بهدوء، تاركًا خلفه الجريدة على أريكة غرفة النوم. ولا أدري لم اندفعت نحوها ومزقتها إربًا، وعاودتني نوبة البكاء، لكن هذه المرة بصوت عال، لم آبه وإن سمعه كل من في الحارة.
انهرت على سريري مهزومة، نعم مهزومة فلم تكن هذه معركتي. ولكنني جازفت بخوضها، كنت أعرف منذ البداية أنه أحبها هي، ولكني اعتبرت أن الأمر انتهى بزواجها وسفرها.
حتى بعد أن اكتشفت أنه لا يزال يحتفظ بصورها ورسائلها القديمة بين أغراضه الشخصية في بيت عائلته، حاولت تجاهل الأمر.
لقد أحببته، وكنت مصرة على كسب الرهان، رهاني مع نفسي بأنني سأصبح حبيبته، وبأنني أستطيع أن أنسيه جرحها.
لكنني فشلت.
نعم أنا متأكدة من أنه قال “أحبكِ” ولكنها، أقسى كلمة “أحبكِ” يمكن لامرأة أن تسمعها.
إنها أشبه بصدقة يخفيها، حتى لا تعلم يساره ما قدمته يمينه. إنها أداء واجب من زوج يحرص على أن يكون مثاليًا في كل شيء، لكنني لم أعد أحتمل أن أكون ضيفة ثقيلة على قلبه، وبيته.
لم يبادرني يوما بحديث، ولم يجادلني أبدًا في شيء، فقط يلتزم الرد بأدب مفرط على كلماتي، وفي أسوأ الحالات كان يأخذ جانب الصمت.
الصمت الذي قتلني، كم تمنيت أنه يقولها في وجهي، قاسية كصفعة؛ “أنا لا أحبكِ”. ولكنه لن يقولها، فليس من طباعه القسوة.
نهضت عن سريري غيرت ملابسي، وحضرت حقيبتي. كانت صورة عرسنا معلقة على الجدار أعلى السرير، أنزلتها، تأملت تفاصيل وجوهنا تلك الليلة، كانت ملامحي تتفجر سعادة، وكان وجهه جامدًا لا يقول شيئًا.
منذ تلك الليلة أدركت أنه إنما تزوج ليهرب من ذكراها.
مسحت دموعي التي بللت زجاج الصورة، فكرت في كسرها، لكني لم أستطع فدسستها مع خيبتي في الحقيبة.
ودّعت البيت، ودّعت أحلامي، وسرت أجر حقيبتي إلى باب البيت.
عندما فتحت الباب كان هناك، عاد لتوّه من الخارج، فاجأه مظهري، وما أحمله في يدي، بدا آسفًا، أو ربما حزينًا لأجلي، لكنه ظل صامتًا كشجرة.
غادرت المنزل وأغلقت الباب على نظرته.
سرت في طريقي مخلفة ورائي رجلًا يحمل وردة، وكلمة “أحبكِ” ترددها جدران البيت، لكنها أبدًا لم تتخطى عتبة بابه لتلحق بي.
Discussion about this post