تيانو عن دار غراب للنشر والتوزيع بمصر الشقيقة.
اتشرف باصدار روايتي الاخيرة حصريا في أول طبعة بين يدي القراء عن دار غراب للنشر والتوزيع المرموقة منوها باحترافيتها وانتقائيتها في اثراء المكتبة العربية.
مقطع من رواية
تِيَانُو
عزلة الأرض البعيدة
Tiano
La solitude de la terre lointaine
نوميا ( كاليدونيا الجديدة)24 جانفي1878.
بانت منارة جزيرة “إميدي”في الجنوب الغربي قبل ممر” بولاري” بأكثر من عشرين كيلومترا ، وهو أحد ثلاثة ممرات طبيعية وسط شعاب مرجانية ، تؤدي إلى حوض يقبع فيه ميناء “نوميا” … انتصبت المنارة من المعدن بارتفاع ناهز الستين مترا، لتنتهي بقبة اعتلت حلقة من النوافذ الزجاجية ، تُفْتَحُ على الفضاء بشرفة دائرية الشكل، فتطل على غابة كثيفة يحيطها شاطئ رملي دافئ ،تقصده إناث سلاحف البحر تطمر بيضها فيحضنه بين حبيباته الناعمة، كما يمتد رصيف من الخشب على أوتاد تغرق في الماء ، ليتجه صوب مسلك ترابي يصل إلى باب مدخل المنارة ،الذي نقش أعلى مدخلها اسم نابليون الثالث.
“كلادون” لفظ اشتقه الجزائريون من اسم الأرخبيل ، ونسجوا عنه كثيرا من الأساطير…كان سطحه يعكس تنوعا غير متجانس ، ويظهر الأفق منفتحا على امتداد تلال حمراء ، تتخللها مساحات خضراء ، احتضنت أشجار الصنوبر والنخيل والموز والصندل ، وكثيرا من الأعشاب الكثيفة ، كما تناثرت كتل الجبال و تباعدت بلا انتظام ، ولامست اليابسة البحر في انحدار غير سحيق …انتشرت بقع من المستنقعات الصغيرة غير بعيد عن الساحل ، وانتصبت أوتاد رمادية لصخور ناتئة من القاع .
كانت زرقة الماء تكشف عن شعاب مرجانية متوهجة ، عرتها حزم النور المتسللة عبر شفافة السطح ، فانكسرت في تموج راقص ، تفاعلت معه فصائل من الأسماك بألوانها الزاهية … سيمفونية فريدة بهذا الجمال في ضحى شمس دافئة .
يتردد صوت جهوري: «نحتاج إلى تخفيض السرعة».
القبطان “بوجو”: «”هنري” نحتاج إلى الانحراف شمالا بستين درجة … وأن تكون السرعة أقل من عشر عقد».
-علم سيدي ، أوامرك.
تعالت جلبة اختلطت فيها الأصوات… انفلت نغم من كمنجة “ريمون” ، الذي اختارت روحه وجهة أخرى للسفر… كانت أنامل صديقه “ادوارد” تداعب أوتارها في خفة، فقد تعلم العزف على يديه وهو يتذكر قوله : « حين نفقد حضن الأم والحبيبة ،تظل ألحان الموسيقى حضننا الدافئ والدائم ، الذي لا يموت أو يخون».
تجاوبت سيقان البحارة بحركات منسجمة ، تضرب الأقدام على الخشب بإيقاع جميل … كانوا يغرقون في هستيريا من الفرح ، فقد لاحت اليابسة من بعيد ، وبدا أن تحرير المرساة بثقلها ، قاب ساعة من الزمن أو أكثر بقليل ، لتنتهي رحلة المائة يوم وخمسة بعد عناء كبير.
اقتربت السفينة من “نوميا” في رأس ناتئة ، تطل على البحر في حوض آمن للسفن،وظلت جزيرة “نو ” بمرتفعاتها حصنا طبيعيا في وجه الأمواج ناحية الجنوب الغربي ، وعينا ساهرة على المرفأ ، ومرصدا للوافدين عبر أعالي البحار، بينما شكلت شبه جزيرة “دوكوس” جدارا في وجه أعاصير الشمال الغربي ، وظل كل مضيق تحت الحراسة من خلال مراكز متقدمة .
وقف الأدميرال “بريتزبوير ” أمام كوخ صغير من الخشب ، يقبع بجانب شجرة جوز هندي تظلل سقفه ، وتفرق رجاله منتشرين على رصيف الميناء .
قبع الكوخ هنا كمركز للتلغراف ، و عصب متقدم للإشارة ، ومحور تواصل مع مراكز أخرى ، يؤمن المعلومة ، بدءا من وصول السفن ، والإخطار عن أي تحرك للمبعدين خارج حدودهم … كان هروب ” هنري دي روشفور” من شبه جزيرة “دوكوس” مع آخرين ضربة قاسمة عجلت بتنحية الحاكم السابق ، وحل “بريتزبوير ” خلفا له .
كان رجلا في العقد الخامس من عمره ، مستدير الوجه ، عريض الجبهة … تبدو عليه علامات الوقار والهيبة ، غير أنه لين الطبع يميل إلى الألفة ،و يحرص على الانضباط ، كما تظهر لك طيبة الإنسان في تصرفاته ، أكثر من كونه ضابطا يجنح إلى الصرامة، لكن هذا لا ينفي شدة بطشه أثناء انفعاله المفاجئ.
جعل سياسته كحاكم جديد ، تعتمد على تحسين ظروف الحياة ، حتى لا تبقى الجزيرة وجهة عقابية ، بقدر ما تصبح الأجواء محفزة للبقاء ، وأن يكرس الاستيطان فيها بدافع الرغبة أكثر من غيره… مهد الطرقات للعربات ، وفتح مسالك في الغابات والمناطق الوعرة ، كما مد الأسلاك بين المراكز للتواصل والإشارة.
التفت الأدميرال إلى اليسار ، ثم انحنى على نافذة صغيرة قائلا: «السيد “فيليب” ، أبرق للكولونيل “جالي باسيبوك ” أن يلتحق بالميناء مع كتيبة من الفرسان ».
– نعم سيدي ، أوامرك.
بدأ رنين الإشارات الصوتية يتلاحق ، بينما علق أحد الضباط:
– أرى أن احتياطك في محله ، هناك مجرمون خطيرون على ظهر السفينة ، لا نتوقع ردود أفعالهم بعد نزولهم .
– يعقب آخر على يمينه :«أربعة أشهر من الإبحار مع اليأس كفيلة بأن تقلب تفكيرهم» .
– الأدميرال “بريتزبوير” : «صدقت ، بعضهم من شمال إفريقيا ، رجال أشداء بعيدون عن بدائية ” الكاناك” ،لكنهم لا يتوانون في قطع رأسك في أول فرصة تتاح لهم» .
يردف ملتفتا إلى محدثه: «لا تقلق سيكون كل شي تحت السيطرة ، أؤكد لكم دوما أننا نحتاج للحكمة أيضا ، فالردع وحده غير كاف ».
– سيدي عادت الإشارة : «سينطلق بعد دقائق مع رجاله في طريقه إلى هنا» -” فيليب” مخاطبا الأميرال من النافذة –
مصطفى بوغازي
Discussion about this post