نحن العرب أمة تحب الكلام فتألقت في الأدب والشعر والرواية والغناء. فبينما نجد غيرنا يفكر دائما في أفضل طريقة لحل مشاكل مجتمعاتهم، نقوم نحن بالتفكير دائما في أفضل كيفية للتعبير عن مشاكلنا. فنعبر عنها بالشعر وبالأغاني، وبالأساليب المختلفة للخطابات المليئة بالبلاغة، وحتى بالكلام الفارغ وبالخرافات، أما الحلول فلا نعرفها ولا تعرفنا.
ولذا، إذا جئت للبحث العلمي عندنا، تلاحظ أننا نفضل الأسلوب الوصفي، ونتحاشى الأسلوب التحليلي، حتى وإن كان يحلو لبعضنا أن يستعمل ما يسمونه “الوصف التحليلي” وهي عبارة لا تعني في الحقيقة شيئا.
غلب على تحاليلنا العاطفة والحماس والوصف، وطغى عليها التكرار والحشو، وأصبحنا لا نعرف للتحليل أسلوبا ولا نعرف للوصف حدا.
تتبعت، لمدة ستين يوما – أو ما يزيد عن ذلك قليلا – تحاليل الخبراء الاستراتيجيين الذين أتت بهم بعض القنوات العربية للحديث عما يجري في غزة، فلاحظت السرقة فيما بينهم إذ وجدتهم يعيدون كلام بعض، ولاحظت الطابع الوصفي الذي يميز كلامهم، والذي جذب انتباهي أكثر خلطهم بين الاستنتاج والأمنيات وبين المنطق وبين المراوغات. فبدلا أن يعتمدوا الدقة والصدق في استنتاجاتهم، يتركون العنان لأمانيهم ولأكاذيبهم وأوهامهم.
غزة تتمزق تحت القصف الوحشي للطائرات، وشوارع غزة تنفجر دما لمداهمات الدبابات الإسرائيلية وأحياء غزة تنهار تماما وهي في هلع كبير وكل ما نسمعه من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين أن جيش الاحتلال لم يستطع التوغل إلى داخل غزة. فلما توغلوا قال لنا الخبراء الاستراتيجيون أنهم لم يسيطروا، ولما سيطروا قالوا لنا أنهم لم يسيطروا إلا على مسافات قليلة جدا… وصل الإسرائيليون الى جنوب غزة في تنفيذ استراتيجي ممنهج من أجل تهجير شعب غزة وتدمير مساكنهم والمحللون الاستراتيجيون يتغنون بقدرات المقاومة…
لقد لاحظ الجميع أن تحاليل الوضع في غزة تبدأ دائما بتقديم من المنشط الرئيسي، ثم يأتي منشط ثاني، ببعض الخرائط فيصل لنا ما جرى، ثم تحال الكلمة الى “الخبير العسكري المحلل الاستراتيجي” فيقول نفي الكلام باستعمال نفس الخرائط، ونفس الألفاظ من أول يوم الى اليوم.
ذكرتني هذي التحاليل الفاشلة بتلك التي كنا نسمعها وقت الحرب على العراق. فبينما كانت أمة بأكملها تداس وتهان، كأن المحللون الاستراتيجيون يقولون لنا أن جيش صدام سينجح في القضاء على جيش التحالف. وما نجح جيش صدام، وما نجح صدام… وذهب العراق وتوفي صدام.
أخشى أن نستيقظ يوما، فنجد بقايا شعب غزة قد أخرجوا الى صحراء سيناء. فتنتهي غزة وتنتهي فلسطين، ثم يرجع الخبراء المحللون الاستراتيجيون الى صمتهم بجيوب مليئة مقابل تحليلاتهم المظللة و الفارغة.
Discussion about this post