من رواية (ملح السّراب) /12/
مصطفى الحاج حسين.
لأجلي، اشترى أبي تلفازاً لنا بصورةِ الأسودِ والأبيضِ، لأتوقَّفَ عن ارتيادِ دورِ السينما، إذ لمْ أتركْ فيلماً إلَّا وأحضرُه مراتٍ عديدةً.
فرحْنا بالتلفازِ كثيراً أنا وأخوتي، لكنَّني لمْ أحقِّق ماكان يرغبُهُ أبي منِّي، فلم أقلِعْ عن عادتي في التّردُّد الدائمِ على السينمات.
وكثيراً ماكنتُ أغافلُهُ برفقةِ أختي (مريم)، لمشاهدةِ الأفلامِ المِصريَّةِ.
وبعد فترةٍ قصيرةٍ، سقط التلفازُ من أعلى الخزانةِ فتهشَّمَ، ممَّا أبقانا لأشهرٍ حزانى لحرمانِنا منَ التلفاز، حتَّى تسنَّى لأختي(مريم) جمعَ مبلغٍ مناسبٍ من جرَّاءِ عملِها في الخياطةِ، حيثُ كانت تُحيكُ وتُخيطُ الفساتينَ الجميلةَ ببراعةٍ
فشترى لنا أبي تلفازأً جديداً، وسُعدنا به، حيثُ أخذتِ العائلةُ تتحلَّقُ حولَه في ليالي الشتاءِ الماطرةِ، وتجتمعُ لتشاهدَ مسلسلَ السهرةِ، فلاينامُ الواحدُ منَّا إلّا بعد أنْ يستمعَ إلى برنامجِ الوشَّةِ الخالدِ.
كان والدي يعملُ في البناءِ ، وأنا أشتغِلُ معه، لكنَّ العملَ في هذا الفصلِ الباردِ، يتوقَّفُ تقريباً لذلك كنت أحِبُّ الشتاء، لأتحرَّر من مهنة ٍ لا أطيقُها، بسبب قساوتِها ومخاطرِها، وشدَّةِ التعبِ فيها، وكنتُ أغتنمُ فُرصتي في الشتاءِ لأتفرَّغَ للسينما، بينما كان والدي، يمقُتُ هذا الفصلَ من السنةِ، حيث يكونُ بلا عملٍ، رغمَ مسؤوليتِهِ عن أسرةٍ كببرةِ العَدَدِ، وشديدةِ الاستهلاكِ، فينفقُ ما ادَّخرَهُ من نقودٍ، ثمَّ ليبدأَ بالاستدانةِ من أقربائِهِ ومعارفِهِ.
وحدَثَ أنِ استدانَ من ابنِ عمِّه أبي (شفقٍ) مرةً على أنْ يردَّ له هذا الدينَ، في فصلِ الصيفِ، لكنَّنا لا ندري لماذا استعجلَ (أبو شفق) على مطالبة أبي.
؟!.ما السببُ؟!. ما الدوافعُ +؟!.. لا أحدَ يعلم.. !! عِلماًَّ أنه لم يكنْ هنالكَ زعلٌ، أو أيُّ خِلافٍ بين أبي وبين (أبو شفقٍ)، الذي كان يوماً أجيراً عنده، ولم يفلحْ بأنْ يصيرَ معلمَ بناءٍ، رُغم محاولاتِ والدي الكثيرةِ لتعليمِه.
كان (أبو شفقٍ) في تلك الأيام ، ينادونَهُ (عبدو) لكنَّه بعد أن توظَّفَ في الدولة، وصار له شأنٌ في الحزبِ الحاكمِ، تحوَّل اسمُه، من (عبدو)إلى(أبو شفقٍ)، فلم يعُدْ يناديه أحدٌ باسمه، بما فيهم والدي، إذ صار له هيبةٌ ومكانةٌ ومكتبٌ، وقدِ اتسعتْ رقعةُ شواربِه فوقَ فمهِ الواسعِ التكشيرةِ إلى أنِ أختلسَ ملايينَ الليراتِ من صندوق المحاسبةِ، وأتى بشهودٍ زورٍ، فدفعَ لهم بسخاءٍ، ليحلفوا على المصحفِ الشريفِ، ودفع للقاضي رشوةً ضخمةً، ليصدِّق كَذِبَ الشهودِ، بدونِ تدقيقٍ، فحكمَ عليه بالسجنِ لمدةِ سنةٍ، وكان داخلَ السّجنِ معزَّزاً ومكرَّماً، إذ راح يتصرَّف وكأنَّه مأمورُ السّجنِ، وكان يرتشي داخلَ السجنِ ويقوم بالوساطات للسجناء وأهليهم وكان بالاتفاقِ مع مديرِ السجنِ يخرجُ خِلسةً من السجنِ، لينامَ في بيتِهِ مع زوجته ليلةً على الأقلِّ في كلِّ أسبوعٍ.
وبعد سِجنِه الترفيهي هذا، تمَّ طردُهُ من الحزب ِفلمْ يأسفْ على ذلك، حيث صار بالمُقابلِ غنياً، وله تجارتُه، ومشاريعُه، ومكانتُه العالية، وراح يتعاطى الخمورَ، ويبحث عن الفاحشةِ ليلَ نهار.
وكان (أبو شفقٍ) ظالماً حتَّى على أولادِه وزوجته فكثيراً ما كُنا نسمعُ منْ أخوته الفقراءِ، عن أخيهِمِ السّارقِ هذا، والذي هو يتفاخرُ بتاريخِهِ ويعتبرُ أنَّ السّرقةَ من الدولة حلالٌ وليست حراماً، وهي حقٌ مكتسبٌ، لكلِّ مَنٍ استطاعَ إليها سبيلا، ومع هذا هو لا يحلّلُ ولا يحرّمُ في كلِّ القطاعات، الخاصَّة والعامَّة، ولأنَّه غارقٌ في المعاصي كان يخشى أن تلِدَ له زوجتُه بنتاً، فيأتي من يعتدي له عليها، أو يجرُّها إلى الرّذيلةِ.. ولهذا كان يرغمُ زوجتَه على الإجهاضِ، في كلِّ حملٍ لها، ولما كانتِ امرأتُه ترفُضُ، وتذهبُ أحيانا لعندِ أهلِها
،كان يهدِّدها بالطلاقِ فتُجبَرُ على الخنوعِ وتحقيقِ مطلبِه، وتخضعُ لعمليَّةِ الإجهاضِ الخطرةِ والممنوعةَِّ قانونياً، وكانت حكمةُ اللهِ أن تُجهِضَ زوجتُه في كلِّ مرَّةٍ ذكراً، فيندمُ أبو شفقٍ ويغضبُ، إذ كان يرغبُ بالذكور حتَّى يرثوا أموالَه الكثيرةَ، ومشاريعَهُ الضخمة.
إنَّ قضيَّةَ مجيئِهِ إلى دارِنا، لمطالبةِ أبي، كانت مفاجٍئة لنا، وغيرَ منطقيَّةٍ أبداً، فهو ليس بحاجةٍ إلى النقود، ولمْ يحُنْ موعدُ سدادِها بعدُ ثم ليس هذا التوقيت مناسبا ؟! أمرٌ غريبُ أن يأتي في صباحِ عيدِ الفطر.
وهو لا يدفعُ زكاةٌ، ولا يصومُ رمضانَ، إذاً هل جاء لإذلالِ أبي؟!..أم أنَّه كان مخموراً، وليس بكاملِ وعيه؟!.
أكان يريد الإنتقامَ من أبي، لأنه كان ذاتَ يومٍ معلِّمَه في الشغل؟!.. لا ندري ما هي الدوافعُ، لكنَّه جاءَ صباحَ العيدِ.
سمعتُ صوتَ سيارةٍ، وَقَفَتْ أمام بابِ دارِنا، ثم أخذ زمورُها المزعجُ يصدحُ ويتعالى، خرجتُ.. وفتحتُ الباب، لأنظرَ من هذا قليلُ الذوقِ، تطلَّعتُ إليه وعرفتُهُ، بينما هو كان جالساً خلفَ مقوَدِ سيارتِهِ البيضاءِ بعنجهيَّةٍ.
هتفتُ بفرحةٍ:
عمّي (أبو شفق)..!! أهلاً وسهلاً، تفضَّل.
ظلَّ عابساً، ونظرة التعالي بادية في عينيه، ومن منظر شاربه الضخم ،قال:
– أينَ أبوك؟. قلتُ:
– إنَّه بالداخل، تفضل يا عمي.
لكنَّه ظلَّ متجهِّماً، عابساً، وقال بصوتٍ مُتعالٍ وآمرٍ:
– نادي على أبيكَ بسرعةٍ.
دخلت إلى الدار وأنا أصرخ:
أبي، لقد جاء إلينا عمي(أبو شفقٍ)، وهو ينادي عليك.
خرج أبي من الغرفة، وعلائمُ الدهشةِ كانت باديةً على ملامحِ وجهِه، (فأبو شفقٍ)، لم يسبقْ له أنْ زارَنا، ولا في الأعيادِ، كما كان يفعلُ أخوتُه، وكذلك كان أبي يبادلهم الزيارات.
استقبلَه أبي ببشاشةٍ واضحة، مرحباً به بصوتٍ عالٍ، فيه ما يشي بالحيرةِ والارتباكِ والاستغرابِ.
– أهلاً ابنَ العمِّ، يا مرحباً تفضَّل، كلّ عامٍ وأنتَ بألف خير.
لم يكنْ من عادةِ أبي، الترحيبُ بهذه الطريقة فهو ترحابٌ مصطنعٌ ليس نابعاً من القلب.
ردَّ(أبو شفقٍ) باقتضابٍ ، ومن دون أنْ تُطِلَّ بسمةٌ على شفتيهِ الرازحتينٍ تحت شنبِهِ غزيرِ الشَّعرِ، الذي لاينسجمُ مع وجهِه الضيِّقِ الصغيرِ:
– أهلاً، أين أنتَ ؟! لم نعدْ نشاهدُك، بعد أنِ إستدنتَ منِّي؟!.. أتحسبُ أنَّك نصبتَ عليَّ واختفيت؟! واللهِ أنا أقومُ بفضحِكَ، وأتسبَّبُ لك بالبهدلةِ أمام كلِّ العالمِ، وآخذ حقِّي منكَ غصباً عنكَ.
كان كلامُه صدمةً كبيرةً لأبي، وعلى مرأىً منَّا نحن أولادُه المتحلِّقونَ حولَ السيَّارة، أمامَ بابِ دارِنا يومَ العيدِ، وممَّن؟! منِ ابنِ عمِّه الذي يصغَرُهُ بالعمرِ، أجيرِه السابقِ !!!.فأبو (مخطة)
كما كان يلقبونه، يطالبه بمبلغٍ ضئيلٍ وتافهٍ، وهو المكتنز بالنقود.
إزدادَ وجهُ أبي امتقاعاً، وتضاعفَتْ سُمرتُه، وصار يميلُ إلى السوادِ الداكن، بينما طفحَتْ عيونُهُ بالاحمرارِ والغضبِ
صوتُه كادَ يختنقُ ، وبسمتُه انعدمتْ عند شفتيه.
يا الله !!!.. لم أشاهدْ أبي مِنْ قبلُ، يتعرَّضُ لمثلِ هذا الموقفِ اللعينِ السخيفِ التافهِ الظالمِ المؤلمِ غير الإنساني، خشيت عليهِ أنْ يحدُثَ له مكروهٌ، كدْتُ أصرُخُ بهذا العمِّ الشنيع:
– طزْ منكَ ومن نقودِك المسروقةِ، نحن نعرِفُ تاريخك القذرَ ياحرامي.
لكنَّني خشيتُ من أبي، فهو لا يسمحُ لي بالتدخُّلِ حتَّى مع الغريب، فكيف أتدخَّل مع ابنِ عمه؟! إنَّه حتماً سيضربُني، ويأمرُني بالدخولِ.
أخيراً انبعثَ صوتُ أبي، عميقاً شجياً، حين قال:
– لكنْ أنا وعدتُك أن أردَّ نقودَك، في الصيف ونحن لازلنا في الشتاءِ، فلَمْ أشتغِلْ بعدُ، ولم يحُنِ الموعد.. ثم استطرد:
– لِمَ هذه العجلةُ؟! هل أنتَ بحاجةٍ، أو بضائقةٍ لا اسمحَ اللهُ.
وما كادَ أبي ينهي كلامَه، حتَّى زعقَ:
– يا أخي، مع هذا أنا أريدُ كاملَ نقودي، لن أنتظرَ مجيءَ الصيف، أريدُ نقوديَ حالاً، وإنْ شاءَ اللهُ، تذهبُ لتبيعَ أولادَك، أنتم لا تستحقُّونَ المساعدةَ،
أوالوقوفَ بجانبِكم، لا أنتَ ولا أخوتي الحقراء، ولا غيرُكم من الأقرباءِ عديمي الذوقِ والفَهمٍ.
سألَهُ أبي باستنكارٍ:
– هلْ هكذا صارتِ العلاقةُ بيننا؟!. فلو أنِّي أعرفُ لما قصدْتُك، واستدنْتُ منكَ.
قال (أبو شفقٍ) متهكِّماً:
– إذاً عجِّل ردَّ لي نقودي.
أجابه أبي باحتقارٍ:
– حاضر، اليومَ وقبل أنْ تنامَ، ستصِلُكَ نقودُك.
شغَّل سيارتَه، تأهُّباً للسير، لكنَّه تكلم:
– أنا في الانتظارِ، وإنْ لم تأتِ، أعرفُ كيف سأتصرَّفُ.
انطلقَ بسيارتِه، دونَ سلامٍ أو وداع، غيرَ عابئٍ بمَنْ في الشارعِ، منْ أطفالٍ أو مارَّة.
دخلَ أبي الدار ، في حالةٍ يرثى لها من شدَّةِ القهرِ والغيظِ.
سألتْه أمِّي، وكان أخوتي قد سرَّبوا لها الخبرَ:
– خَيرٌ ؟!.. مابه (أبو مخطة)،هل جاء لمعايدتِك؟!.. فأنت ابن عمِّه الكبير، ومعلمُه السابقُ في الشغل.
قال أبي وهو يَدْرُجُ سيجارتَهُ:
– يبقى الساقطُ ساقطاً، مهما علا شأنُهُ
وعظُمَ قدرُه.
صاحت أمِّي:
– وهلْ لهذا الوضيعِ قدرٌ أو شأنُ؟!..إنَّه مجرَّدُ حراميٍّ؛ أقسَمَ على كتابِ الله كَذِباً، وسيرتُه معروفةٌ عند القاصي والدّاني، لكنْ قلْ لي ماذا ستفعلُ؟.. وأنتَ وعدتَهُ أن تردَّ إليه نقودَه النجِسةَ هذا اليوم؟!.
دخلَ أبي إلى الغرفةِ، دون أن يجيبَ على سؤالِ أمِّي.
هرعتْ أختي(مريم) لتُحضِر لأبي، إبريقاً منَ الشايِ التي يطلبُها، خاصَّةً حين يكونُ منزعجاً، أو مقهوراً.
دخلتُ أنا إلى الغرفةِ المجاورةِ، كي أدخِّن بالسِّر عن أبي.
وبعد مِضي ما يقاربُ الساعةَ، وبعد أنْ عدتُ إلى الصَور الملونة في المجلات
الفنيّة، وفجأةً، سمعتُ جلَبَةً، وصراخاً
وزعيقاً، ينبعثُ من بيتِنا، في الغرفةِ الثانيةِ، فأطفأتُ سيجارتي على عجلٍ، ورميتُ المجلة من يدي، وهرعتُ لأستطلعَ حقيقة الأمر، وأعرف ما يحدث، فالأصوات أخذتْ تتعالى وتزدادًَُ حدّة وقوّة.
وما إن دخلتُ الغرفةَ ، حتَّى صاحت أُختي(مريم) وهي تبكي، كأنَّها تستنجِدُ بي:
– تعالَ وانظرْ أبوك.. يريدُ أن يبيعَ لنا التلفازَ، إنَّه لي، طَلِعَت عيوني مِنَ السهرِ، حتى اشتريتُه منْ تعبي وأنا ساهرةٌ على مكنةِ الخياطةِ.
وقبل أن أتكلَّمَ، وأنا على أيِّ حالٍ عاجزٌ عن الكلامِ أو التدخُّلِ، فلا أستطيعُ موافقةَ أبي على بيعِ التلفازِ، لأنه فعلاً لأختي، وثمنُه من تعبِها، وهي متعلقةٌ به أكثرَ منِّي، ولا أقدُرُ على الاحتجاجِ، فالموقفُ الذي تعرَّضَ له أبي اليوم، يساوي عُمُري كلُّه، ويستحقُّ لو كان بمقدوري أنْ أبيعَ دمي، وأساعدَ أبي، على الخلاصِ من هذه الورطةِ اللعينة.
كان أبي يصرُخُ بحِدَّةٍ:
– قلتُ لكِ يا ابنةَ الكلبِ، في الصيفِ سأشتري لكمُ أفضلَ منه، سأحضِرُ لكم تلفازاً ملوَّناً.
زعقتْ (مريم) و دموعُها قد بدأت تقطُرُ من خدَّيها:
– لا أريدُ تلفازاً ملوَّناً، اترُكْ لنا هذا، ونحن بألفِ خيرٍ.
اقتربت أمِّي من أُختي شاحبةَ الوجهِ، ترجوها:
– يا ابنتي ..الله يرضى عليك، دعي أبوك يتخلَّص من هذا النذلِ، والله لو كان عندنا غسَّالة أو براد، لَقُلتُ له بِعْ ما يناسِبُكَ واترك لها تلفازَها.. اصبري يا (مريم)، الله كريمٌ سيعوِّض علينا بالأفضلِ.
باع أبي التلفازَ، فبكتْ أختي كثيراً، وبكيتُ أنا في الخفاءِ قليلاً.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
Discussion about this post