قصة قصيرة
صوت يشق الليل
محمد إسماعيل
سبتمبر/2020
بعد منتصف الليل تسحبتْ خلسة من الباب الخلفي إلى الشارع، نهضت فزعة من مكانها حين سمعت صوتا، مدت يدها لتنزع غطاء رأسها من على مسمار معلق بالحائط، لفت رأسها، خرجت من باب حجرتها فوجدت باب حجرة ابنتها مواربا، شهقت وصرخت، وضربت بكف يدها على صدرها في حسرة، نبح الكلب النائم في الدهليز منزعجا فهاجت البهائم بأصواتها في الدويرة، وعلت أصوات الفوضى بداخل البيت كما بداخل المرأة، قالت في نفسها: لقد وقع ما كنت أخشاه!
خرجت كالمجنونة مندفعة نحو الشارع، تنظر يمينا وشمالا، تشق بنظراتها الظلام، وتكسر بأنفاسها الصمت، تهرول نحو الطريق الترابي بين الحقول في الجهة الشمالية للقرية، تمزق أستار الضباب بصدرها وهي تهرول حافية القدمين، لا صوت سوى نباح الكلاب من بعيد، ونقيق الضفادع بالترع والجداول، وتحركاتٍ وسط الزروع مخيفة لا تأبه لها، تتذكر كلمات زوجها وهو يقول لها: سأبيت الليلة بالحقل، إياك أن تغفلي عن ابنتك، إياك أن تباغتك وتخرج من الباب.
تلطم خدها وتئن ولصوتها نشيج، تنادي بلا جدوى على فتاتها، فيرد عليها الصدى النداء، عمود الإنارة من بعيد في الظلام بدا كرجل يشعل سيجارة، هاجس مرعب بداخلها وهي تلتفت ببصرها كالرادار في كل الاتجاهات، تنادي مجددا فلا إجابة، زادت دقات قلبها حتى كاد يقفز من خلف قضبانه العظمية، تنادي بعبثية على زوجها ليلحق بها، بينما هو في حقله بالجهة الغربية يروي أرضه ويراعي زرعه، وأصوات طقطقات ماكينات الري كدوي المدافع، وصلت أخيرا لنهاية الطريق المتقاطع مع شريط السكة الحديد، وقفت بين القضبان في منسوب أعلى من الطريق لتكشف المساحة كلها، متلهفة كمجنونة، كل الاتجاهات صمت وظلام، وكل الأصوات حشرات وحيوانات وطيور، تسمع صوت استغاثة تناديها باسمها: حنان، حنان، حنان، تسكت فجأة، تستغرب النداء، يسترعها صوت حركة بعريشة قرب الساقية القديمة، جرت نحوها بلا خوف، لا تفكر في أي مصير، أصابتها بلادة مفاجئة، فقط تريد أن تصل لابنتها عند مصدر الصوت، وفور وصولها إذ بها نظرت فشهقت، وسقطت على الأرض كشجرة قطعت، وأصوات همهمات حولها بدت ككوابيس، وقت أن أفاقت مع شقشقات النهار بعد الفجر رأت وجوه الفلاحين تنظر من أعلى نحوها، وجوها بلا ملامح، ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه رابع مرة تحدث بالقرية في شهر واحد، عودة النداهة من جديد، والكل يكرر، عودة النداهة من جديد!، وصوت من بينهم: لن تعيش لغد.
وسط الفلاحين يضع زوجها التراب على رأسه ويصيح، وقد أخذت ابنته أمها بحضنها وتبكي، بينما المرأة لا تستطيع النطق ولا الحركة.
#محمدإسماعيل
Discussion about this post