اشارات حول فيلم مالانكوليا …
ميسون خليل
سيناريو واخراج لارس فون ترير
بطولة كرسيتن دونست..شارلوت غينسبورغ و كيفر ساذولاند
الكواكب المنفلتة من مداراتها نادرة الحدوث مع ذلك فإن لارس فون ترير بنى فكرة فيلمه مالانكوليا منطلقا من افتراض أن كوكبا يكبر الارض بعشرة مرات يتحرك باتجاهها يقوده مصير محتوم قاطعا مسافات فلكية ليصطدم بها أطلق عليه اسم مالانكوليا ويعني كآبة … ولأن الغاية لم تكن هنا لصناعة فيلم خيال علمي لكن المخرج استثمر هذه الفرضية في بناء فيلم يتحدث عن الكابة …. ليبدأ الفيلم بإشارات عن ذلك الكوكب المنفلت وكلما اقترب من الارض يستثمر المخرج ذلك آخذا بنا الى كشف خفايا النفس البشرية . فإذا كان الانسان قد فطر على التمسك بالحياة و ما فيها من صراعات اختلفت مع العصور إلا أنها تبقى صراعات من اجل البقاء اولا و من اجل تلبية الرغبات والحاجات الذاتية . أما في هذا الفيلم فنجد أنفسنا أمام كشف أعلى وأسما و اكثر عمقا في الذات بعد أن يواجه ألجميع ألمصير ذاته . كيف نستقبل ألامر ؟ كيف سينظر كل منا إليه ؟ أي ملاذ نفسي سنكون بحاجته ؟ لهذا نرى أن المخرج قد إبتعد عن التفاصيل التي تتعلق بتاثيرات ذلك الكوكب على عالمنا مكتفيا ببعض اشارات بسيطة مبحراً بنا بعوالم تلك الشخصيات قبل الاصطدام الذي اعتبره المخرج النهاية الحتمية للوجود رغم التطور العلمي الذي لا يحمي الانسان من مصيره ليحول كل ما فوق الارض الى مجرد غبار كوني لينهي تاريخنا و حضارتنا متلذذا بنهاية الوجود بفعل الكآبة .
إن الصور المتتابعة التي يبدأ فيها الفيلم مشحونة بالدلالات و الرموز و الجمال . فهو يعيد لنا بناء الاحداث و من ثم يجعلنا نتوقع النهايات . في الوقت الذي يبدو الكوكب بحجمه المهول جاذبا و منجذبا للأرض بحركة بطيئة … يضطرب الوجود … تغوص الاقدام في الارض و تنهار الخيول التي تمثل القوة مستسلمة للفناء . فلا تجد الشخصيات ملاذا لها غير الاستسلام .. جوستين بثوب الزفاف تجر نفسها وهي مثقلة بجذور متشابكة أو نراها حاملة اكليل البراءة منسابة مع ماء البركة بشكل متناغم مدهش و في حالة اخرى نراها و هي تهيء الكهف السحري من مجموعة عصي جرداء مانحة للطفل ( ليو ) إيمانا بني على وهم لمواجهة ألهول القادم المتمثل بالكوكب الذي يواصل اقترابه من ألارض حتى يصطدم بها بمشهد جذاب كما يصوره المخرج بحرفية عالية . كل تلك الصور السريالية التي بدت كأنها كوابيس كانت مدعومة بموسيقى قدرية لفاغنر حيث الانسجام و الموسيقى المعبرة عن الفكرة تشكل مشاهدا أخاذة لبناء قاعدة حسية لفيلم يأخذنا لعوالم افتراضية غير تقليدية .
الكآبة تعلن عن وجودها منذ المشاهد الاولى للفيلم وكذلك المهارة ببناء الحدث وخلق حوارات لها دلالات يعرفها المتفرج فيما بعد …على سبيل المثال المدخل الاول … سيارة فخمة تحمل عروسين مقبلين الى حفلة زواجهما إلا أن السيارة تتوقف ويعجز السائق عن المواصلة بسبب الطريق المتعرج صعودا فيضطر العروسان الى المشي على الاقدام ليصلا الى الحفلة المنشودة التي ستكون موقع احداث الجزء الاول بكل ما فيها من تقلبات للاحداث و القناعات و الافكار … ألام المحبطة التي جاءت دون قناعة لتكون حاضرة في حفل زفاف ابنتها … لا تؤمن بأي معايير اجتماعية وتعتبر ان الزواج خيار فاشل أما الأب الذي جاء هو ألاخر الى تلك الحفلة فقد كان مصطحبا صديقتيه الدمثتين ويبدو بكل تصرفاته على العكس من ألام كما لو أنهما من عالمين مختلفين كليا .
هكذا تبدأ الحفلة بأقطابها المتنافرة الغريبة بعد أن وصل المدعوون مرتدين أقنعتهم الاجتماعية لتقوم كلير وهي أخت العروس و الاكثر عقلانية بادارة تلك الحفلة التي ما أن تبدأ حتى تتكشف خفايا عديدة .. فنراها تسعى جاهدة لانجاح تلك الحفلة رغم القلق و الخوف الذي لازمها هي و زوجها جون لعجزهما في مواجهة اكتئاب جوستين و تقلباتها النفسية . هكذا كان حفل الزواج يغلفه مزاج غير مستقر يخيم على الحفلة وكل شخص ما ان نقترب من عالمه حتى نكتشف أنه قد تقنع محاولا اخفاء ما في نفسه من نوازع و دوافع غير أن المخرج يتسلل بمهارة و ببعض اشارات كاشفا لنا تلك الخبايا المظلمة عن الذات .. ولكون التبصر الذي تتمتع به جوستين دون غيرها أمرا غريبا و محيرا خاصة حين استطاعت أن تحزر عدد حبات الفاصولياء في الجار وعدم الكشف عن ذلك مما يوحي لنا ان المعرفة العميقة لجوهر الحياة هي سبب اكتئابها و هو ما تفصح عنه جوستين في الجزء الثاني ( أنا كنت أعرف كل شئ ) لهذا فهي لا تبدي اهتماما بأي شئ بقدر ما تذهب بعيدا مع ذاتها ليسيطر مزاجها المفعم بكل ما هو غرائبي . كما أنها اول من ينتبه الى الكوكب الذي يظهر في بداية الاحداث كنجم تائه في سمائه … فكان بالنسبة لها امرا حيويا تتابعه و تنشغل به في حين أن الاخرين يتابعون انشغالهم بتفاصيل صغيرة خلال الحفلة التي تتعثر مع مرور الوقت بسبب افعال جوستين الماخوذة بهاجس تدمير الذات و شيئا فشيئا تعجز عن المواصلة و تستولي عليها الكآبة كليا و هي العروس التي يفترض بها أن تتزوج في تلك الليلة . فنراها تغفو تاركة كل شئ متقبلة النهايات التي تتلمسها بحس شفاف ذاهبة في ذاتها عميقا حتى تبدو افعالها غريبة غير متزنة نفسيا الامر الذي كان سببا بانهاء الحفلة و اعلان العريس إنسحابه وتخليه عنها دون ان تهتم لهذا الامر فما كان يشغلها اهم بكثير…هو نداء الفناء الذي تنشده تحت تاثير وضعها النفسي …. هكذا يتخلى عنها الجميع بعد ان تنهار كليا و لم تعد لها القدرة حتى على الوقوف … مذكرة ايانا بعوالم كافكا في رواية المسخ ( تدمير الذات…غرائبية الطرح…العزلة ) فينقلب كل شئ الى غير ما كان يفترض ان يكون…ويتفرق الجمع ويقوم المخرج باختزال ابطاله في الجزء الثاني من الفيلم منعزلين في قصر ريفي في مواجهة الكوكب الذي كلما اقترب من الارض احدث تغييرا في المزاج والاحساس.
ولأننا عرفنا أن زوج كلير هو الانسان العملي والمهتم بالفلك و الحسابات العلمية . نراه منهمكا في رصد حركة الكوكب من خلال اجهزته مؤمنا بما يؤكده العلماء من أن الكوكب سيمر قريبا من الارض و لن يصطدم بها . لكنه ما أن يدرك الحقيقة المفزعة و التي تدحض حساباته كليا ينتحر تاركا زوجته كلير وابنه ليو يواجهان المصير المحتوم بمفردهم. وهنا المفارقة المذهلة حين نعرف أن الضعفاء هم الاقوى في مواجهة اللحظة الاخيرة وبرضى تام … كما في حالة جوستين التي كانت منهارة تماما ولم تعد قادرة حتى على التعامل مع سائق التاكسي الذي أقلها الى البيت الريفي بعد ان بقيت تشعر بالعجزلفترة طويلة من حياتها غير أنها بدت اكثر هدوءا مع حركة الكوكب و اقترابه من الارض متقبلة فكرة الفناء الكلي و بمزاج مدهش مستعدة للحدث ألاخير متصالحة مع ذاتها مستقبلة تلك النهاية بهدوء وسكينة بل انها لم تكلف نفسها للبحث عن الخلاص بعكس أختها كلير فقد كان لديها الكثير لتخسره مع تدمير العالم . فبدت مضطربة مصابة بالهلع خوفا على حياتها وحياة ابنها ( ليو ) لهذا نراها تحاول الهرب الا ان مركبة الكولف تتعطل بها ولم تستطع عبور الجسر الذي توقف عنده حصان جوستين سابقا رافضا العبور الى الضفة الاخرى … فألامر يسوقه قدر محتوم .
هذا ما يذهب اليه فيلم مالانكوليا الذي قاده مخرج يعاني من الكآبة الشديدة و الأفكار السوداوية للوجود. الا أن ذلك لا يقلل من قدرته خصوصا اذا ما عرفنا ان ترير الكاتب والمخرج وهو كما ذكرناه في الافلام التي قدمناها سابقا أنه كان يتبنى فكرة العمل كليا لينتج عالما خاصا…مدهشا وفق رؤياه للحياة وبنيتها رغم فكرة العدمية التي تسود فيها .
( إن الاض شريرة ليس علينا ان نحزن عليها…لن يفتقدها احد…ما عرفته أنا … ان العيش على الارض هو الشر ) هذا ما قالته جوستين لاختها كلير معبرة عن فكرة العدمية التي طرحها ترير .
ان من المهم هنا ان يدرك المشاهد أن ايقاع هذا الفيلم يختلف عن افلام المغامرات او الافلام التي تعتمد على سرعة تتابع الاحداث … كما ان فيلم مالانكوليا من اكثر الافلام التي ينقسم النقاد و المهتمون حول تقييمه حتى أن بعضهم قد اشار اليه باعتباره تحفة فنية و هو من الافلام القابلة للتأويل بكل ما فيه من رموز و بطريقة ترير المميزة و بروحية الدوكما السينمائية و اختزالاته للقطات و التكوينات البصرية المدهشة و الانتقالات المشهدية الغير متعارف عليها و قدرته على ضخ الطاقة الجمالية في كل مشهد. متوجا ذلك البناء بمشهد النهاية الكوني الذي يخلد في الذاكرة .
شارك فيلم مالانكوليا بمهرجان كان السينمائي عام 2011 وقد حصلت كرسيتن دونست على جائزة افضل ممثلة دور رئيسي و التي جسدت فيه دور جوستين بشكل مذهل والذي رسم ببراعة من قبل المخرج لارس فون ترير الا انه لم يحصل على اي جائزة بسبب تصريحاته المستفزة التي اعتاد عليها بل انه منع من دخول القصر الذي يقام به المهرجان و مع ذلك فقد حاز الفيلم على جوائز عديدة في مهرجانات اخرى منها في الاخراج والسينوغرافية… افضل عرض افضل ممثلة دور رئيسي و افضل دور مساند
Discussion about this post