بقلم: نسرين حسن
هادىءٌ هذا الليل…مليءٌ برائحة الترابِ والجذور..كحبلٍ مشدودٍ تترنحُ فوقهُ الغيوم..القمرُ يستديرُ كعملاقٍ حر بلا عمائم ولا حروب..كقائدِ أوكسترا يضبطُ الوقتَ المضيء للملائكةِ …
إنه اليوم الخامس من شهر آب..شهر العقيق الاحمر والحرّ الشديد…خرجت لأتنشقَ الهواء..رائحة الورد الصّيفي…رائحة السكر المحروق والقرفة تفوحُ من المطابخ…كان جاري العجوز البالغُ في حكمته يجلسُ على كرسيٍّ خشبي قديم..لفافةُ التبغ الطويلةِ بين شفتيه ..يبدو كعازفِ مزمار..عيناهُ حجرتان زرقاوتان..وجههُ شاحبٌ كحقلِ الذّرة..أنفاسهُ تثقبُ الفراغ ..فتتصاعدُ رائحةُ الماءِ من الفخّار…نفس هذا الزمان والمكان كان شاباً ..يصبغُ خواصرَ الفتياتِ بالوردِ الأحمر والخجل…كأنهُ على موعدٍ مع أحد الموتى..يهمسُ لي فاقترب..ضغطتُ على يدهِ بخجلٍ ونظرتُ في عينيه…رأيتُ أشياءَ مستهلكة وغامضة..حياةٌ في سريرها الوثني تُفرخُ الاحلامَ المرجومة…من أنت؟..الكلامُ هدرٌ للوقت والطعمةِ النّقية للطاقة….
تجعّدَ الليلُ في كفي كمنديلٍِ حريري..شعرتُ بجسدي يتحولُ لخليةِ بلاسما دبقة…
يتمتمُ العجوز ..استشرتُ الأطباء..جسدي مضمومٌ لرّوحي المرهقة..القوانينُ الأزلية كمثلِ فارسٍ بقبضته حبلٌ يترصدُ الاعناقَ..القسوةُ في قلبِ الحكمة..
ولدتُ طفلاً نقيّاً كالمطر..انامُ بكوخٍ صغير ..افكرُ بنباحِ الكلبِ في الخارج..افرحُ بحبّاتِ التّوت في الحقل..وأخجلُ من بقعها على قمصاني..افكرُ بالرّوحِ الحيّة إلى الأبد..بالشمسِ تبني عشّها أعلى التل..الصّقر يسكنُ السماء الزرقاء..المخلوقات البطيئة داخل قواقعهن..أضحكني قفز الجنادب فوق الماء الاخضر لضفةِ البحيرة..راقبتُ ظلّي الطويل وحركتُ ذراعي كالموج..أرتبكُ كلَّ مساء وأنا اعدُّ الماعزَ..أحزنُ على الكبشِ الضائع..عندما أبكي أشعرُ بغموض الحياة..الحزن جابي لضريبة الأمل..أفكرُ بالحظِ كغنيمةِ حربٍ..الأشياء الصّعبة تحتاج أن نصمتَ في لبِّ النّار..أصبحتُ رجلاً نصفهُ نبوءات والنصف الآخر لجسدِ امرأةٍ تُشعرُ روحي بالفرحِ والامتلاء..تملأُ مسامات قلبي بالزهرِ الأبيض…يشيرُ إلى السّماء..من يسكنها ؟..لن يفعلوا لأجلكم شيئاً..المستقبلُ أصغرُ من ذرة…الحاضرُ يدفنُ بجانبِ القبور الأقدم…لغتكم زورقٌ صغير والمعنى خليجٌ عميق..لستم أحرارا وانتم تعيشون الخوف..تسترقون النظر من شقوق الحياة ..كانت الحشراتُ المضيئة تتقوّسُ على أغصان الشجرِ كظهرِ خادمة.بعوضٌ جائعٌ للدّم ..أصبحَ هذا الليلُ فاشيٌّ بحضورهِ…العجوزُ تحولَ لضباب..ياسمينةٌ صغيرةٌ تنمو تحت الكرسي ..موت وفناء..حرارةٌ مرتفعة…أنينٌ يتصاعد…ولادةٌ جديدة من جهةِ الفجر..
Discussion about this post