بقلم الكاتب والأديب
هيثم فتحي
” إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس .. لا تشرب الدواء الذي أرسلت إبنتك في طلبه .. الدواء فيه سم قاتل .. الدواء فيه سم قاتل “.. من منا لا يتذكر هذا المشهد الرائع وتلك العبارات الرنانه بصوت وأداء العبقري يوسف وهبي في فيلم حياه أو موت من بطولة عبقري أخر وهو عماد حمدي.
كان الفيلم من كلاسيكيات السينما في الثمانينات والتسعينات والذي شاهدناه جميعا ،، أحببناه وشعرنا بالخطر معه ،، تفاعلنا مع أبطاله ،، أحسسنا بالخطر كأنه واقع ملموس وكأن أحمد إبراهيم شخصيه حقيقيه.
أحببت البنت الصغيره بطلة الفيلم والتي كانت تحمل زجاجة الدواء المسممه لتوصلها إلى أبيها واسمها في الحقيقه ضحى أمير و التي ظهرت في خمسة أو ستة أفلام فقط تقريبا لا أتذكر منهم إلا دورها في فيلم رد قلبي وهي تؤدي دور الأميره إنچي وهي صغيره .. كانت ملامحها معبره للغايه عن البراءة مما يزيد المشهد توترا .. تسير وهي غافله عن الكارثه التي بيديها .. لوحه عبقريه جديره بأعظم المتاحف وعنوانها “البراءة تحمل الكارثه” أو “البراءه القاتله”.
عشت أنا وأبناء جيلي أحداث مشابهه لتلك الواقعه ولكن على نطاق أوسع وأكبر يتخطى حدود الأحياء التي عشنا بها وحدود بلدنا أيضا .. وشملت بقعة كبيره من العالم في سن مبكره للغايه.
ففي ٢٦ من ابريل عام ١٩٨٦ حدث خطأ أثناء إجراء تجربه بمفاعل تشيرنوبل بأوكرانيا التي كانت آنذاك جزءا من الإتحاد السوفيتي مما تسبب في حدوث إنفجار أدى إلى تسرب مواد مشعه في الغلاف الجوي مهددا أوروبا بخطر الفناء.
وقتها كنت في السابعه من عمري ولم تكن وسائل الإعلام بالقوه الحاليه ولكن عظم الحدث وصل إلى مسامعي و تسربت شائعات عده بوصول الغبار الذري الي مزارع الأبقار بأوروبا مما أدى الي تلوث المحاصيل والألبان بالغبار الذري.
زاد الأمر سوءا وذعرا حيث كنت قد شاهدت أنا والكثيرين فيلما تم عرضه في برنامج نادي السينما من أنتاج عام ١٩٦٧ إسمه يوم طفت الأسماك “The Day The Fish Came Out” قبل الكارثه بفتره ويحكي عن كارثه نوويه بأحد جزر اليونان .. لن أنسى الذعر الذي رأيته في ذلك الفيلم على الرغم من صغر سني وقتها ومشهد الأسماك الميته بالمئات من أثر التلوث وهي طافيه على سطح الماء.
إنتشرت التحذيرات في كل مكان وقتها .. تحذيرات من منتجات الألبان ومشتقات الألبان المستورده وقتها لوجود خطر التلوث بالإشعاع .. أعتقد إنها كانت شائعه غير منطقيه بسبب جو الذعر المنتشر وقتها مع ضبابية وقلة المعلومات المتاحه .. وهنا لاحت الجمله الشهيره .. “لا تشرب الدواء ،، الدواء فيه سم قاتل” ،، تحذيرات في كل مكان ،، أتذكر أني اشتريت وقتها حلوى مصنوعه من الكراميل وفي غمرة إستمتاعي بمذاقها نظرت إلى الورقة التي تغلفها ورأيت كلمات بأحرف انجليزية وأصابني الذعر ،، كانت ليله قاسيه مررت بها إرتفعت فيها درجة حرارتي فقط من الإيحاء معتقدا بأني أكلت حلوي ذريه.
في عصور ما قبل الانترنت والفضائيات والتي أصر على تسميتها عصور ما قبل التنوير كان الذعر الغير مبرر حدثا متكررا وضيف دائم على الأحداث ،، أحداث كثيره كانت تتكرر وكنت دائما أجد الجمله الشهيره هي الحاكمه لكل الأحداث ،، “الدواء فيه سم قاتل” مع لهجه أبويه آمره “لا تشرب ،، لا تشرب”.
لا أدري هل كان الذعر ضيفا دائما بسبب قلة المعلومات في عصور ما قبل التنوير أم أنه كان متعمدا ؟ .. لا أستطيع أن أجزم بهذا ولا أجزم بأي شئ على الإطلاق حيث أن قلة المعلومات وقتها تجعل أي إستنباط منطقي يتحول إلى مجرد إفتراضات جدليه بلا معنى أو أساس.
أتذكر حدث أخير وهو الكسوف الكلي للشمس والذي كان متاحا رؤيته في مصر عام ١٩٩٩ ،، حدثت حاله كبيره من الذعر والمعلومات المتضاربه والتخويف بعدم النظر إلى الشمس لعدم التعرض إلى خطر العمى .. كان الناس مذعورون ويتبادلون المعلومات التحذيريه بضرورة إرتداء نظارات الشمس وعدم النظر إلى الشمس مطلقا وإلاختباء بالبيوت وقت الكسوف وكأن الشمس تحولت يومها إلى ميدوسا في الأساطير الإغريقيه القديمه والتي تحول من ينظر إليها إلى حجر بمجرد النظر إليها فقط .. وهنا يظهر النداء الشهير مره أخرى ” لا تشرب الدواء .. الدواء فيه سم قاتل”.
أعتقد أن هذا الحدث كان الأخير الذي عشنا فيه في عصور ما قبل التنوير فبعدها بدأ سيل المعلومات يتدفق من كل مكان ،، معلومات منها المغلوط ومنها الصحيح ولكننا كنا كمن عاش دهرا داخل كهوف مظلمه وعندما خرج للشمس أول وهله أصابه نور الشمس بعمى مؤقت ظل يتخبط يمنة ويسارا حتى عاد له الإبصار تدريجيا وبدأ يبصر حقيقة الأشياء.
بعدها بعدة سنوات مر علينا حدث كبير خرجنا فيه من أجل مصر .. لم ترهبنا نداءات التخويف .. لا يوجد سم قاتل .. خرجنا بالألاف من أجل مصر في حدث يعرفه جميعنا ولن ننساه.. طبعا أنت تعرف ما أقصده إنه نهائي كأس الأمم الأفريقيه.
( اللبن فيه إشعاع قاتل )
Written & artwork by: Haytham Fathy – هيثم فتحي
Discussion about this post