بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
بعد وصولنا بيومين قضيناهما بين الفندق والحرم بدأت تتكشف لنا فيهما معالم. المقيمين فى مكة مابين أهلها أو الوافدين العاملين فيها، وكما يقول المثل الشعبى المصرى.. تعرف فلان، نعم، عاشرته، لا، تبقى ماتعرفوش
. والمعاشرة هى المعاملة والاحتكاك فى أمور الحياة من بيع وشراء واقتضاء مصالح، كانت المسافة بين الفندق والحرم لاتتجاوز الكيلومتر إلا بأمتار قليلة لكن العقبة الكبيرة كانت فى ارتفاع الطريق من طريق أم القرى تجاه الحرم بمايشبه ربوة متصاعدة الارتفاع تشكل صعوبة فى ارتقائها للكبار أو البدناء أو المصابين فى الأقدام،وبالتبعية يعانى مثلهم من يرافقونهم وبالتالى يلجأ كثيرهم إلى استخدام تاكسى للوصول إلى الحرم رغم قصر المسافة نسبيا، وكان هذا الأمر مما كشف بعض السلبيات والاستغلال لدى معظم أصحاب السيارت الخاصة أو التاكسيات فغالى معظمهم فيما يطلبونه أجرا للركوب لهذه المسافة القصيرة، وظننت فى البداية ان الأمر لن يتعدى عشرة ريالات أجرة لى ولزوجتى بمايعادل مائة جنيه مصرى ندفعها أجرا للانتقال من مدينة إلى أخرى، فإذا بعضهم يطلب خمسين وستين ريالا، بل كان هناك من أعماه الطمع فطلب ثلاثمائة ريال لنا ولرفيقينا الحاج رضا وزوجته لوجود حقائب معنا! وخرجت من دهشتى إلى غضيى وأنا أقول له: أدفع ثلاثة الاف جنيه أجرة لكيلو ونصف كيلو؟، وطبعا بسلامته لم يرد بأكثر من مط شفتيه استغرابا من مقارنتى وهز رأسه وانطلق بسيارته! أما غيره فالحجة الجاهزة هى الزحام وبأنه موسم، وكلهم يركب سيارة ملاكى خاصة وتبدو عليه علامات الراحة المادية.
نفس المسافة ركبناها بعد نهاية المناسك ودفعت وزوجتى عشرة ريالات فقط. لكن مايذكر فى المقابل أن الغرباء من الجنسيات الأخرى المقيمين بمكة ويعملون سائقين كانوا أكثر رأفة فيستخدمون العداد أو يطلبون أقل من ربع مايطلبه أهل أم القرى، لكن ذلك أيضا لايمنع إحقاقا للحق من أن أذكر شابا يافعا وعجوزا غابرا من المكيين ركبنا معهما سيارتيهما وكانا ذوى رأفة وقناعة فيما دفعناه لهما، بل ان ذلك الشاب اليافع وهو طالب يدرس هندسة محركات السيارات كان أقلهم طلبا لأجرة النقل وتعامل مع انسداد الشارع مروريا بمحاولات عديدة للذهاب من شارع آخر وكنت وحيدا عائدا من ضاحية قريبة، ولم يجد بدا ولا تصرفا آخر سوى توصيلى لأقرب نقطة بعد محاولات قطع فيها عدة كيلومترات ولم يطلب أزيد مما طلبه، هذا الشاب اليافع وذلك الشيخ الغابر تركا أثرا طيبا خفف من أثر عكسى تركه آخرون.
ثم كان الاثنين يوم التروية وحملتنا حافلات المطوف من الفندق إلى مخيمات مشعر منى، لنجد أنفسنا وسط عصبة الأمم ومختلف الجنسيات يقاسموننا المخيمات والأطعمة وطقوس الحياة، خلايا نحل تملأ المكان حركة ونشاطا وطوابير الانتظار أمام أبواب دورات المياه المجمعة انتظارا للدور، كل طابور كما لو كان قطاعا عرضيا بلغة العلميين من نوعيات وأجناس الحجاج، وفى كل منهم تجسيد لطباع أهل بلده وكيفية علاقتهم بالإسلام وطقوسه، شرق آسيا يمثل القطاع الأوضح للجنسيات مابين الهنود والباكستانيين والطاجيك والبنغال والصينيين واليابانيين وأهل تتارستان وكازاخستان وصولا إلى الإيرانيين والروس، كل هذه الأجناس جمعتها فريضة الحج فتباينت الألسن واتحدت الغاية، لكن اختلفت طريقة التنفيذ باللغة وببعض الحركات والعادات بطبيعة الحال. كان الانتظار بباب دورة مياه نوعا من فرز عادات الشعوب فى علاقتهم بدورة المياه التى احترمناها كثيرا فى التراث المصرى فأسميناها ببيت الأدب وبيت الراحة، والتزم معظمنا الأدب فيها وصولا إلى الراحة وتحكم الحياء فينا عموما لنحرص على ان ندخلها بحثا عن الراحة ونقضى فيها وقتنا بلاضجيج ونخرج منها فى هدوء، وكذلك كان الأمر كما لاحظته فى الشعوب الهادئة كالصينيين واليابانيين والهنود أما البعض الآخر فلم يكن يلقى بالا سوى لراحته فقط دون حساب لأحد بالباب أو مار بالقرب منه.
وكما بدأت الرحلة بليلة طويلة عاصفة كان هناك يوم طويل مشحون عاصف أيضا.. كان يوم عرفة والاستعداد للتحرك صوب الجبل وتوابعه الأرضية، ومع أذان الفجر وبعد الصلاة كان الجميع قد استوى على قارعة الطريق لركوب الحافلة وقد تم توزيع الطعام الجاف على الجميع، وعند الشروق تقريبا توالى توافد الحافلات أمام المخيم وكل يبحث عن حافلته و يحاول اللحاق بمقعد لرحلة لايعرف أغلبنا كم تمتد طولا ووقتا، وتداخلت الأمور واضطررنا كرجال مصريين كما اعتدنا للركوب أولا وحجز مقاعد لنسائنا زوجات أم أمهات وشقيقات،أما بقية الجنسيات فلم يشغلهم هذا الطابع المصرى وتشاحنت نساؤهم للركوب بأى طريقة وسط الزحام، ومابين الباب الأمامى والباب الخلفى كشف الزحام عن طباع كل شعب، وتلك وقفة مستقلة مع نهاية هذا اليوم الطويل،وتمكنت من الركوب من الباب الخلفى وحجز مقعد لزوجتى فى انتظار ركوبها، وصعد من الباب الأمامى رفيق الرحلة البحيرى الحاج رضا ومعه زوجته، وناديت عليهما وعلى زوجتى وكانت المفاجأة أننى أنادى ولا مجيب، وسألت الحاج رضا وزوجته فلم يجيبانى بما يريحنى، وظللت أنظر من نوافذ الاتوبيس وهو يستعد للتحرك فلا أجدها بين الواقفين خارجا أو المنتظرين للركوب، وبطبيعة الحال لم استطع رؤية اى حافلة أخرى وركابها، ومع تحرك الحافلة لم أجد حلا سوى لنزول بحقيبتى بحثا عن الزوجة.. لتستمر أحداث اليوم الطويل فيما بعد.
Discussion about this post