كان ماء البحر أزرق صافيا. يحاكي زرقة السماء ،ودفء الشمس ،وصوت أسراب طيور النورس ، المحلقة هناك على المرفأ ترسم دائرة إلى أعلى وإلى أسفل .
والريح تهفهف على أديم الشطئان .
هدوء والبحر مدى ،
يغريني موجه ويأخذني إليه..
ها أنا أنفض عني توجسي و ارتيابي ،وأقبل عليه أغوص وتكسرني أمواجه .. يمد لي يده ،نعانق الموج معًا بعشق الاتقياء والأفق بعيد ..ونشيد الأبد يعانق المدى..
يحدثني الموج بكل لغات الحب ،
ويغسل وجهي المتعب بملح وشوق .
ها أنا والماء واحد.. سرت قشعريرة بين ثنايا الزمن ودفء الرمل وهذا الجسد المقدس بعيدًا يرفرف ..
ترتعش يداي وهي تقبض على الماء ، ويفلت الهواء من قبضة يدي ،ورائحة الشوق تمتزج برائحة البحر .أكابر ، أصابر
أبحث عني وأنا في رحاب الموج بين حنايا البحر،
أتوارى خلف هذا البياض .. سكون عم البحر ،وريح يغازل الموج ، وحدي أسمع ما قالته الريح للأمواج عن حكاية الصباح والمساء..
أسمع شهيق و شدو روح كل غريق ينام تحت القمر .يضع قبلته على جبين البحر ،يضج البحر بأنفاس الربيع وعطر الوطن .. نام ممتلئًا بكلام غير الكلام ..
يبكي في صدره النورس والحمام ..لم يعد إلا ذكرى طائر يشدو غربة الشمس والقمر، وحلم قادم من بعيد .. يمد يداه يرسم عشقه وحلمه فوق قرص الشمس . بينه وبين الغد صوت الموج المنكسر .. علا الموج الأزرق بيننا عنيفا يكسرني بين مد وجزر ،رياح عاتية وعاصفة!
أرى يده تمتد نحوي
بعينين شاخصتين ، بحنان طفل قاهر، بإصرار المنتصر ، بطهارة قديس .
وأنا أدفعه عني أمسك بالماء وأبعد يده كي لا يغرق..
كان يلهو و يلعب لا يدرك أني أغرق أغرق.. أصارع يده كي لا تمسك بيدي و معًا نغرق!
ها أنا أفقد القدرة على السباحة.
تتلاعب بي الأمواج ، و تتقاذفني ذات اليمين، وذات الشمال . بدا البحر غابة ،وحيتان الموت تسحبني إلى القاع..
في مكاني أدور حولي ،وسط تيارات البحر القوية.
أنجذب إلى أسفل ،و أطفو إلى أعلى ،
وسط دوامة تعج بالأمواج أصارعها لكي لا يغرق!
أتخبط في الماء ،أبلع الماء ، أتوقف عن التنفس .
وحدها أشعة الشمس ،وهي في كبد السماء تسحبني إليها!
وطيور النورس وهي هناك بعيدة ،تراقبني ،و تحلق جماعات إلى أعلى وإلى أسفل.
لحظة لحظات .. ربما توقف الزمن .. عم الهدوء وخفت صراخ صوت أمواج البحر ..هيجان ، ثورة ، ضجيج ..
وأنا في خضم اليم ألتقط أنفاسي ،
أحاول أن أسبح نحو الشط ،
لكن قدماي تغرق وتغوص في أعماق البحر ،
في مكاني لا أتحرك .
أدور ،أدور وأدور..
يكاد البحر يبلعني أختفي داخله.
يثقل أنفاسي هذا البياض ،يخنقني ،أرى عدمًا ،سكرات
لا وجود ، و لا معنى ..
الوحل يبلعني ويجرني إلى الأعمق .
بكل قوة ،أنتشل نفسي من قاع البحر،
و أطفو من جديد على السطح كأني ألاعبه أغيب داخل البحر يمد لي يده غير مدرك أني أغرق .
يثور الموج في وجهي و يدفعه عني إلى الشط..
أختفي وأظهر وأنا أغرق .
ضباب يحول بيننا . مجردة من قوتي ،
معتقل جسمي بين قبضة الماء والسماء .
بدأ يتضاءل شعوري بالنجاة ،
بات الهلاك قاب قوسين مني أو أدنى
بلغت العاصفة أوجها !
ها أنا والبحر والموت من له الحق في الحياة ؟
هبني من لدنك سكينة أيها الموج الغاضب!
وحدك يا بحر جراحي تتذكر صيحاتهم، و ملح عرقهم ،
و سماتهم ،وكيف اختلط لحن أغنياتهم القديمة بصوت الموج ،واختفوا بين نحيب الرمل والأمواج العاتية .
أما أعياك هذا السفر الطويل في الذاكرة !
وتفاصيل البحر العامرة برائحة الجنة
و بأسى الحالمين المحرومين !
بالكاد أرفع يدي ،
لم أعد أشعر بشيء حولي
بياض ، عدم ، هذيان ..
ورأيت فيما يرى النائم، بكل ثبات وعزيمة أجمعني جيشا مقداما يشن حربا ضروسا ليستعيد أرضه ، حريته ..
بين معترك الأمواج أصارع أصارع ..
وكأن يدا تمتد نحوي ..
يد تمتد نحوي.
بياض …
أيها السابح ضد التيار من أين جاءتك عقدة البحر !؟
من نجا منا ومن غرق ؟؟
Discussion about this post