يوميات فى الحرم
(٧)طريق الهجرة وملحمة الزمان
بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
.. نعم مضى 1445عاما على الهجرة النبوية الشريفة، ونعم قرأنا وسمعنا وشاهدنا كتبا وموضوعات وحكايات وأعمالا فنية تتناول الهجرة، لكننى أرى أن الهجرة تتجسد هناك ويراها السامع والقارئ هناك فى موطن نزول الوحى وعلى طريق الهجرة وفى بلد احتضان الفارين بدينهم من لظى مكة وفظاظة الكفار من أهلها وأهل نبيها صلى الله عليه وسلم،ليصنعوا من هناك ملحمة الزمان.
ونعود لاستكمال الرحلة وقد قطعنا الطريق من جدة حيث مطار وصولنا أولا للأرلضى المقدسة إلى البلد الحرام مكة. كانت الرحلة شريطا وثائقيا حيا لجغرافيا سمعنا عنها وكنا فى حاجة لمعاينتها على الطبيعة مابين صحارى منبسطة حينا وترتفع حينا وتنخفض حينا لتصنع هضابا وأودية شقتها الطرق المرصوفة والأنفاق الطويلة، وبالتعبير الدارج نحت السعوديون فى الصخور ليمهدوا تلك الطرق التى تربط أنحاء المملكة المترامية الأطراف، حتى إذا ما دخلنا حدود مكة وأعماقها ازدادت التضاريس ضراوة وصعوبة بجبال عالية وأودية سحيقة، وانفلت العقل من أسر الحافلة ونوافذها وأجهزة تكييفها ورفاق الرحلة ليركب آلة الزمن ويعود إلى حيث كانت الرسالة المحمدية تشق طريقها من السماء إلى الأرض، عادت آلة الزمن إلى أولئك المستقبلين لها بين مرحب بيقين وتضحية ورافض بإصرار وتعنت فيما يشبه اليقين، كلا الصنفين رأيته يستمد يقين الإيمان أو حتى عناد الكفر بتصميم من تلك البيئة الصعبة التضاريس الوعرة المسالك، فإذا كانت تلك الصعوبة والوعورة مازالتا تلقيان بظلالهما على تلك البقاع رغم كل التقدم والتيسير فى الأمر فكيف كانت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا رهبة وصعوبة ووعورة فى نفوس ساكنيها؟
هذا هو السؤال الذى أراه حديرا بالبحث عن مشاق صدر الرسالة التى حملت ركب المهاجرين كى يقطعوا تلك المسافات الطويلة من مكة إلى المدينة عبر ثمانية أيام بلياليها تتحدى فية ارادة المهاجرين وعورة الطريق واختيار المجهول فرارا بدينهم ويقينهم. ولعلى ألمح بعضا من حكمة الله فى اختيار مكان وأهل بعث الرسالة بشدتهم وبأسهم وتعايشهم مع طبيعة شديدة الصعوبة ليكون المؤمنون منهم قادرين بالفعل على تحمل صلف وبأس الكفار، حتى العبيد ممن اعتنقوا الإسلام أراهم قد اكتسبوا صلابتهم من قسوة تلك البيئة فوقر الدين واليقين فى القلوب وتحملت الأجساد عذاب الكافرين، بل لعل ايمانهم فى تلك البيئة كان أشبه بدخول الحديد وصهره فى أفران صعوبة الطبيعة وعداوة الكفار ليخرجوأ منها أنقياء المعدن خالصى اليقين، ومن كان للرسالة فى مولدها ليحمل مشاعلها ويتحمل لهيب التمسك بها غير هؤلاء بتلك الصفات والمؤهلات النفسية قبل الجسدية. إنهم أهل مكة الذين شكلوا بذرة كتائب التبشير والانطلاق بهذا الدين الوليد وقتها ليحكم العالم بعدها فى غضون عشرات قليلة من السنين.
هذا عن أهل مكة ومازال كثير منهم حتى وقتنا الحالى أبناء تلك البيئة الصعبة بما تركته عليهم من صعوبة فى التعامل، ولذلك مجال آخر، لكن من هنا ومن طريق الهجرة الطويل الشاق فعلا ورمزا واحتكاكا ومعايشة، يمكننا أن نتصور معاناة نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم وصحبه الرهط الأوائل ذوى القلة العددية والاستضعاف البدنى مع العظمة اليقينية والاستقواء العقدى والتسليم المطلق لله وأوامره ونواهيه، وبهذا فقط مهدوا الأرض وحرثوها وأعدوا تربتها تماما لمئات الأجيال بعدهم لزرعها مرة بعد أخرى وتصدير محصولها وحبوبها إلى عالم الباحثين عن رب الكون وعقيدته الخاتمة.
وتظل يوميات الحرم عديدة الأحداث والعبر فلنستكمل معا بإذن الله.
Discussion about this post