بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
بعد صلاة الظهر ليوم الأحد السابق ليوم التروية،ومن داخل الحرم والمسجد الحرام إلى ساحته الخارجية؛عشرات الآلاف من الحجيج يتناثرون هنا وهناك بين وافدين للمرة الأولى وخارجين من طواف وداخلين إلى طواف ومستلقين على بلاط الساحات المحيطة بالحرم ،حوار هنا وطعام هناك وصمت هنا وحديث هناك،وقليلا ما كان هناك من هو بمفرده جالسا أو ساعيا سائرا،وبين الجميع تتناثر مبردات المياه تضخ مياه زمزم للعطاشى ولراغبى بركتها وسرها الأزلى،وقليلا ما تجد إحداها بلا طلاب يحيطون بها يتبادلون ملء أكوابها البلاستيكية ليفرغوها داخل أجوافهم مشمولة بدعوات كل منهم بما يحب ويتمنى.
شمس نهايات يونيو كانت كأنها شمس أغسطس فى عنفوانها،والتمست وزوجتى وزوج ابنتى بقعة خالية للجلوس بها وقد تقابلنا بعد بحث لم يطل كثيرا بفضل المحمول وتبادل مواقع تواجد كل منا،وهى نعمة من نعم التكنولوجيا الحديثة دون شك.ووسط مجموعات متناثرة من الحجيج افترشنا مساحة فوق بلاطات الحرم الرخامية الكبيرة،وحولنا أطواف من حمام الحرم تداعت معها كلمات بيرم التونسى فى”القلب يعشق كل جميل”وهو يقول:فوقنا حمام الحمى عددنجوم السما..طاير علينا ألوف تتابع ألوف..واللى نظم سيره واحد مافيش غيره..دعانى لبيته لحد باب بيته “..نعم عجيب حقا أمر هذه الحمائم التى تتجسد معها حقيقة معنى البلد الأمين وقد اختلطت جموع الحمائم الرقيقة مع ألوف الحجيج وقد حمل بعضهم حبوبا لإطعام لتك الحمائم،ولم تجد زوجتى بحقيبتها سوى بقايا وفتات قراقيش وبقسماط متبقية من أكلنا لتشارك بقية الحجيج احتفاءهم وإكرامهم لحمائم الحمى التى تحط زرافات ووحدانا وتطير جماعات وأفرادا تشيع البهجة وتلتمس الترحيب من ضيوف الرحمن؛أما أنا فقد توسدت ذراعىّ وتمددت طوليا على بلاطات الحرم وتوجهت بنظرى صوب السماء أشكر خالق هذا الكون ورب هذا البيت لما نحياه من دقائق من العمر هى بكل العمر.
وقت مابعد الزوال وقمة الهجير وقيظ الشمس المحرقة وقد توارت ظلال المبانى الشاهقة ،ولعلها توارت هى الأخرى هربا من الشمس وبحثا عن بقعة ظل تتوارى فيها من الشمس ومن نفسها أيضا،ورغم كل هذا كانت اللمسة الحانية اللطيفة لبلاط الحرم وهو يستقبل تمدد جسدى وتوسد ذراعىّ ـ كانت مثار تعجبى وأن أفضى بها لزوجتى ولصهرى أن بلاط الحرم وهو يتعرض للشمس المحرقة طوال اليوم فيه رطوبة وبرودة غريبة لاتتوافق وتركز الشمس عليه طوال اليوم،خاصة فى ذلك التوقيت من اليوم،وهو مايتعارض وقوانين الطبيعة وانتقال الحرارة وتمسكها أكثر بالأجساد ذات التوصيل الردىء للحرارة،لقد لفت الأمر نظرى وأفضيت به لمن معى،وأصدقكم القول فقد كان هذا الأمر بالفعل مجهولا بالنسبة لى لأننى لم أكن قد ذهبت إلى هناك قبل ذلك،غاية مافى الأمر أننى تيقنت من وجود شئ غير طبيعى فى الأمر،وهو مادفعنى للفضول وللبحث عن الأمر،لكننى لم أكد أتحول بعدها من الفضول إلى البحث حتى فوجئت بالحكاية تطرح نفسها علىّ مساء ذات الليلة وأنا أتصفح الفيس بوك ليلا بعد صلاة العشاء،وكانت الحكاية المثيرة مفاجأة لى أكثر من مفاجأة هذا الفيس بوك الذى بات يشارك الإنسان أحاديثه وبعض مايفكر فيه!
الحكاية كانت تحمل فى طياتها فخرا بمصرى عبقرى ترك على أرض الحرم وعبر توسعاته لمسة لعلها ستعيش آلاف السنين تشهد بعبقرية مصرى محب سليل لعبقرية مصرية تتواصل عبر التاريخ،وإليكم ماقرأته عن حكاية بلاط الحرم والمهندس المصرى العبقرى.
إنه المهندس المصرى وشيخ المعماريين محمد كمال إسماعيل.والحكاية أن
الملك الراحل فهد بن عبد العزيز رحمه الله كان قد اطلع، على مجلدات موسوعة مساجد مصر والتي صنفها المهندس المصري محمد كمال إسماعيل ليقرر على أثرها الملك استدعاءه وإسناد مهمة توسيع الحرمين له.
بالفعل بدأ المهندس المصري أعمال التوسعة والإنشاءات في الحرم المكي وأصبح العمل قائما على قدم وساق حتى اقترح المهندس العبقرى في يوم من الأيام استيراد نوع معين من الرخام يعمل على امتصاص الحرارة، لتخفيف المشاق على الحجاج والمعتمرين وضيوف الرحمن، فقوبلت فكرته بترحاب شديد.كان هذا النوع من الرخام موجودا في جبل صغير في اليونان، فقرر السفر بنفسه والإشراف على عملية استيراد الرخام، فكانت رحلته شاقة وصعبة ولكنها تكللت بالنجاح واستطاع استيراد الكمية المطلوبة من هذا الرخام لأرضية الحرم.
الكمية التي تعاقد عليها المهندس المصري للحرم المكي الشريف هي تقريبا نصف الكمية الموجودة بأكملها في هذا الجبل الصغير باليونان، وبعد حوالي 15 عاما طلبت المملكة من المهندس ذاته توسعة الحرم النبوي وتركيب نفس نوع الرخام في أرضيته، فسافر لليونان مجددا والشكوك تدور برأسه لأنه قد اشترى نصف الكمية الموجودة بالجبل ومن المستحيل أن يتبقى النصف الآخر كل هذه السنوات.
حين وصل المهندس المصري إلى الشركة وسأل عن الرخام، وجد أن الكمية المتبقية قد بيعت بعدها بأيام لإحدى الشركات، أي ما يقرب من 15 عاما، فأصابه الإحباط والحزن، وسأل السكرتيرة عن المشتري الذي اشترى هذا النوع من الرخام، لترد قائلة: هذا الموضوع مر عليه 15 عاما ومن الصعب الوصول لهذا المشتري، لكنه أصر أن تحاول إيجاده وأخبرها بأنه يتبقى له يوم آخر في اليونان وأعطاها رقمه في الفندق.
بالفعل اتصلت به السكرتيرة في المساء لتخبره بأنها عثرت على اسم الشركة التي اشترت الكمية المتبقية من الرخام، لتصدمه المفاجأة بأنها شركة سعودية.
عاد مسرعا من اليونان إلى المملكة وتوجه مباشرة إلى هذه الشركة لمقابلة رئيسها وسؤاله عن الرخام، لتشاء الأقدار أن الرخام بأكمله موجود في مخازن الشركة منذ 15 عاما كما هو، فقص المهندس على رئيس الشركة قصة توسعة الحرم النبوي ليقرر الأخير التبرع بالرخام بأكمله دون درهم واحد!!
إن هذا المهندس المصرى العبقرى يكفيه شرفا ماقام به من تخطيط تلك التوسعات ، والإشراف على عمليات التنفيذ. وكانت هذه أكبر عملية توسعة للحرم منذ قرون عديدة.
فالحرم النبوى زادت مساحته بمعدل زيادة سبعة أضعاف، من 14 ألف متر إلى 104 آلاف متر مربع، والحرم المكى من 265 ألف متر إلى 315 ألف متر مربع ، وهي التوسعات التي أشرف عليها بكل ما تضمنته من مشروعات التوسعة والمظلات والتكييفات والجراج الذي يسع لـ 5000 سيارة تحت الأرض، كما أنه أول من وضع الرخام الأبيض لتغطية أرض الحرمين الذي لا يتأثر بالبرودة ولا الحرارة، وبلغ إجمالى تكلفة الأعمال 18 مليار دولار
ورفض المهندس المصرى الحصول على الملايين مقابل توسعة الحرمين الشريفين، وتم تكريمه من قبل من منظمة المؤتمر الإسلامى بحصوله على جائزة التفوق في العمارة والتي سلمها له الملك فهد شخصيا. وكان عمله استكمالا لعمل مهندس مصرى عبقرى آخر هو المهندس سيد كريم الذى قام
بتخطيط مدينة مكة وتخطيط طرق الحج ( 1950)،وأيضا تخطيط الرياض وتحويلها إلى «عاصمة المملكة» ( 1950)،وكذلك تخطيط المدينة المنورة وتوسعة الحرم ( 1954).
ألايحق لنا أن نفخر بهؤلاء وأمثالهم ونعتز بما فعلوه ونحيى ذكراهم بما يستحقونه من شرف وكرامة!
ويبقى للرحلة أيام كثيرة وأحداث مثيرة فلنستكمل معا بإذن الله.
Discussion about this post