خيم الصمت وعم الترقب. كنت أراقب المدرس وألاحظ لغة جسده المضطربة ونظراته القلقة وكأنه كان يرجو أن يخترق الصمت صوت ما، حتى لو كان صوتي.
أما هو، فقد جلس هناك أمام مكتبي صامتا سارحا في مخيلته، وكأن هناك صراعا يدور في رأسه في هذه اللحظات تحديدا. وليكسر حاجز الصمت الذي امتد طويلا، توجم وجهه واستسلم صوته محشرجا:”لا أستطيع التحدث الآن!”
وسط ذهول مدرس مادة الدلالة السياحية، قررت أن أجد إجابات ترضي فضولي الشديد فسألته ببساطة:”لماذا؟” أجابني بهدوء المحتضر:”هكذا! لا أستطيع!” ثم احتدت لهجته قليلا مبدية قوة مكتومة وعدم رضا بالاستسلام: “ولكني سهرت من الثانية عشر ليلا حتى السادسة صباحا وانا احضر عرضي التقديمي (البرزنتيشن)!”
لا أدري كيف يستطيع هذا المدرس أن يزداد ذهولا ويستفيض حنانا هكذا كما أرى. فقد مهد لدخول الطالب إلى فحص المقابلة معي. أخبرني أنه ليس فقط بعين واحدة؛ بل هو أيضا برجل واحدة ويد واحدة. ورغم وضعه الجسدي الذي قد يجد في اليأس مهربا سلسا لذيذا من الحياة، قد أبى أن يسلك الطريق السهل وقرر استئناف دراسته على وضعه الجديد ورغم كل التحديات. فقد غرق سابقا في بحور اليأس واستقر في قاع الموت؛ ولكنه تنفس تحت الماء وقرر السباحة من جديد، إنما هذه المرة بنصف أطرافه. وفعل ذلك! لقد نجا وعاد إلى ممارسة حياته الطبيعية أو شبه الطبيعية ظاهريا والمؤلمة جدا داخليا. وها هو هنا الآن على الكرسي أمامي يريد أن يجري فحص المقابلة.
لن أخبركم كيف فقد نصف جسده، ولن أتساءل لماذا خانه لسانه لوهلة من الزمن؛ أحيانا نتعب ونستسلم لبرهة وجيزة ثم ننتفض بهمة وهذا ما كان منه. كان يكفي أن أوقف تداعي أفكاري وأفكاره وأفكار المدرس بكلمات معدودات: “وأين مادة البرزنتيشن المكتوبة التي حضرتها؟” أجاب: “في حقيبتي.” فقلت: “اذهب واجلبها إلى هنا.” عندها ابتسمت أسارير مدرس الدلالة السياحية بينما انطلق عمران كالنحلة النشيطة نحو الحقيبة. وعاد بعد قليل جالبا معه أوراقه. جلس ليقرأ خط يده، فقد أذنت له لشدة فضولي أن يقرأ ما خطت يداه. حينها فاجأني واقع أنه يستصعب المطابقة العينية، فهو بعين واحدة مما يجعل قراءة خط يده صعبا. هنا لم يستطع المدرس أن يتمالك غريزته الأبوية، فقفز إلى جواره وحاول القراءة معه وساعده في مظهر إنساني يخلب اللب. قرآ معا ويسار المدرس تطوق كرسي عمران ويمينه تمسك طرف الورقة مع يسار عمران. كان نصفه الآخر تماما: يده اليمنى وعينه الأخرى. كنت أجاهد لكي أحبس العبرات في عيني. لا أستطيع كتابة كل ما جال في خاطري، فهو حتما يملأ دفاتر ويفرغ أقلام الحبر. لكن أهم فكرة خطرت في ذهني هي أن أصورهما؛ لأني رأيت في المدرس حضن سوريا الرحب والدافىء؛ ووجدت في عمران مثال الشباب والشعب السوري الذي يكافح لينهض من تحت الركام ويأبى الموت بجدارة لا يعرفها سوى الفرسان. حاولت تكريس الزمن بلقطة كاميرا الموبايل عند لحظة الانبعاث تلك. إذ لا شيء يهزم عزيمة الإنسان السوري. وما أروعه من انبعاث!
ولكن الحكاية لم تنته بانتهاء المقابلة، بل بدأت للتو. فور انتهاء المقابلات، توجهت إلى مكتب المدير الذي كان منهمكا في مكالمة مهمة جدا. نظرة الانتصار التي علت وجهه لدى انتهائها حفزتني لمعرفة ما كان موضوع الاتصال، ولكني تريثت وفضلت التزام حدودي. فلم أشأ التطفل من ناحية؛ ومن ناحية أخرة، كنت تواقة لأخبره بشأن مقابلة عمران ومدرس الدلالة السياحية. وبعد انتهاء أخباري وإظهار انفعالاتي بادلني المدير بالقول: “وذلك ليس كل شيء. فقد حاولت وسعيت كثيرا مع عدة جهات وجمعيات ومنظمات. وأخيرا جاءني الخبر الذي كنت انتظره. هذا الهاتف كان بخصوص قبول تأمين طرفين صناعيين(يد ورجل) لعمران… وأخيرا!”
ولكم أن تتخيلوا حجم طاقتي الشعورية في تلك اللحظة، ولن تبلغوها. ولكن يمكنكم أن تتأملوا في أنفسكم، وتستشعروا ما يدور في خلدكم. شاركتكم قصة واقعية عن انبعاث الإنسان السوري الذي لا يرضخ للتحديات، والآن أنتظر تفاعلكم.
Discussion about this post