بقلم دكتور… عاطف معتمد
لماذا اهتمت الإمبراطورة الروسية “يكاترينا العظمى” بجغرافية مصر؟
في عام 1932 كتب أحمد شوقي مسرحية شعرية عنوانها “علي بك الكبير” راسما مشهدا ملحميا من عام 1773 لذلك الطموح المغامر لمحاولة القائد المملوكي الشهير الاستقلال بمصر عن سلطة الدولة العثمانية، تلك المحاولة التي انتهت بغدره وسقوطه صريعا على يد أحد قادته الصغار الطامعين في عرش مصر. سينقلب “أبو الدهب” – الرجل الذي أكرمه على بك ورباه – ويخون سيده ويؤلب عليه العرب والترك ليجلس محله.
تتألف مسرحية شوقي من ثلاثة فصول، يدور الأول منها في قصر حاكم مصر “على بك الكبير ” في عام 1770 على وجه التقريب.
بأشعار عذبة وتحليل نفسي تُستفتح المسرحية ببوح آلام من جيء بهم رقيقا إلى القصر من القوقاز وأرض الشركس. وبلاد الشركس المجاورة للبحر الأسود في بلاد القوقاز تقع أيضا في منطقة التكسر والصراع العسكري بين الترك والروس.
يختار “علي بك الكبير” فتاة شركسية زوجة، يعطيها أحمد شوقي اسم آمال.
“آمال” هي الأجمل بين فتيات الرقيق، تمدحها ماشطة الجواري قائلة لحاكم القصر:
🔹مهاة فداها الغيد من شركسية ** لها سيرة عندَ الملوك تُنارُ
🔹إذا برزت ودَّ النهارُ قميصَهَا ** يُغيرُ به شمسَ الضحى فَتغَارُ
🔹وإن نهضَتْ للمشي ودَّ قوامَهَا ** نساءٌ طوالٌ حولها وقصارُ
🔹لها مَبْسِمٌ عاشَ الخليجُ لأهله ** وعاشت لآلٍ في الخليج صغارُ
لا ينسى أحمد شوقي الموقف الصعب الذي تعانية بلاد الشام في ظل صراع الطموحات المصرية في عهد المماليك للاستقلال عن دولة آل عثمان.
يقول شوقي على لسان حاكم عكا:
🔹كل حين يجيء من مصر** جيش ينزل القدسَ أو يحلُّ الشآما
🔹وأميرٌ يقاتلُ التركَ في مصر** أتى شاهرًا علينا الحُساما
🔹نحنُ ما بينَ مصرَ والتركِ ضِعنا ** وَسَئِمْنَا الحياةَ والأياما
🔹غنم نحن بين راعٍ وذئبٍ ** أي هذين جاع كنا طعاما
وبينما على بك الكبير في قلعة عكا تأتيه رسل من مصر تنقل له نجاح التمرد الذي قاده “أبو الدهب” لكنه يعلق آماله على الشعب فيسأل مستغربا :
والناس؟
تأتيه الإجابة:
🔹مع الأمير قلوبهم ** لكنْ سيوفهمُ مع الكذاب
في مشهد من هذه المسرحية الشعرية، وخلال لجوء علي بك الكبير إلى بلاد الشام لتنظيم الاستقرار في الدولة المصرية التي يرأسها يتلقى دعوة من قائد الأسطول الروسي بالتعاون مع بلاد القياصرة لمنح مصر الأسلحة والعتاد التي تضمن استقلال بلاد النيل عن قبضة الدولة العثمانية.
هل يمكن اعتبار ما قاله أمير الشعراء حقيقة تاريخية؟ هل التقى فعلا علي بك الكبير بقائد الأسطول الروسي القادم من البحر الأسود والمرابط ببارجته الحربية أمام بلاد الشام؟
إذا راجعنا المصادر الروسية الحديثة سنجد ثبتا للواقعة التي تشير إلى عرض الإمبراطورة الروسية “يكاترينا العظمى” دعم انفلات مصر من قبضة الدولة العثمانية وذلك خلال فترة توليها عرش روسيا فيما بين 1762 و 1796.
تقول المصادر الروسية إن الإمبراطورة عرضت الدعم الكامل للقائد المملوكي المصري ليس حبا في بلاد النيل ولا تعاطفا مع المماليك بل لتوجيه ضربة موجعة إلى الدولة العثمانية لكي تضعف شوكتها بما يصب في النهاية في صالح روسيا.
وفقا لأمير الشعراء فإن قائد الأسطول الروسي ظهر في سواحل بلاد الشام وبإمرته بوارج مثل الجُزرْ تقف قبالة عكا وقابل “علي بك” في قصر من قصور بلاد الشام.
مضى الربان الروسي يمدح بطولة على بك ويتودد إليه مؤكدا أنهما جنديان معا، وبطلان معا، وتجمعهما رفقة السلاح فأنشد قائلا:
🔹 نحن جاران يا أمير ولكن ** نحنُ في منزلين يختلفان
🔹 أنتَ كالليث رابضًا في الصحاري ** وأنا الحوت في العباب مكاني
وكأن شوقي يقول بأبيات الشعر ما صاغة علماء الجغرافيا السياسية عن مفهوم إمبراطورية “البر” وإمبراطورية “البحر” وهي واحدة من أسس الصراع الدولي،
وكأن مقولة القائد الروسي في مسرحية شوقي تذكرنا بأن تحالف قوة البر وقوة البحر يضمن تفوق أي إمبراطورية عالمية. كما لو أن مصر وروسيا بوسعهما تكوين قوة لا يستهان بها في العالم.
رغم أن علي بك الكبير كان في موضع شديد الحرج وكانت يد “الحوت” الروسي بالغة الأهمية لإنقاذ حاكم مصر (الليث الصحراوي الجريح) إلا أن على بك – وفقا لمسرحية شوقي – رفض الاستعانة بروسيا في استعادة عرشه مفضلا الاعتماد على أسلحة ورجال وعتاد من عكا.
يتعجب أمير البحر الروسي من خطة علي بك وينبهه إلى فارق مستوى التسليح بين أمير عكا والأسطول الروسي قائلا:
🔹 لا ترومَنَّ بالعصَا مُلْكَ مِصْر** واطْلب المُلْكَ بالحسام اليماني
🔹 كيفَ نبغي سريرَ مِصْرَ بشيخٍ ** بدوي بصارمٍ وحصَان
حجة الأدميرال الروسي قوية لا تحتاج إلى معارضة لكن على بك الكبير – وفقا لأمير الشعراء– يرفض دخول مصر على ظهر بارجة حربية روسية فينشد قائلا:
🔹 رباه ماذا يقول المسلمون غدًا ** إن خنت قومي وأعمامي وأخوالي
🔹 يُقالُ في مشرق الدنيا ومغربها ** فعلتُ فعْلَة نذل وابن أنذال
🔹 بُعْدًا وسُحقًا لعلياءِ الأمور ** إذا لم ألتمْسها بخُلق فاضل عالِ
هذه رواية شوقي عن موقف علي بك النبيل الذي يرفض خيانة أشقاء الدين والعقيدة. ويؤكد فيها على أن شرف الغاية لا بد أن ترافقه شرف الوسيلة.
لكن هل كان ذلك حقيقة؟ هل كان موقف علي بك مندفعا بالمبدأ الأخلاقي وحده؟
الحقيقة أن المصادر الروسية المتاحة لدينا لم تعط هذا المشهد تفاصيل كثيرة وقالت إن الترتيب الذي تم مع علي بك الكبير كاد يحقق نجاحا باهرا لولا فشل التفاوض لأسباب مفاجئة رغم أن الأمور كانت تسير بنجاح للأسطول الروسي الذي جاء إلى عكا قاصدا مصر قادما من البحر الأسود ومن شبه جزيرة القرم.
شبه جزيرة القرم تبدو بعيدة عنا في الجغرافيا بينما هي قريبة جدا بالتاريخ والسياسة والجيوبولتيك.
Discussion about this post