بقلم : محمد الشافعى
من البشر أناس حفروا كبرياءهم على خلاياهم، وراحوا يعيشون على أطراف أصابعهم.. يُدميهم التطاول على ذواتهم.. ويقتلهم الانتقاص من أقدارهم.. ولذلك يعيشون فى معركة دائمة.. يبتكرون الأسلحة التى يدافعون بها عن كرامتهم فمنهم من يتحصن خلف جدار من زجاج ليخرج فى النهاية بكثير من الشروخ والكسور والدماء، ومنهم من يتمترس خلف جدار من حديد فيؤذى مهاجميه.. ومنهم من يعتزل الناس ويرتضى العزلة لينأى بكرامته عن هذه المعارك الدامية.
ورغم أن الموسيقار كمال الطويل كان كبرياءً يمشى على الأرض، إلا أنه رفض كل (وسائل الدفاع) السابقة واختار أن يتحصن فى شرنقة من الحرير الشفاف شفقة منه على مهاجميه حتى لا يجرحهم. ولكنه عاش طول الوقت على أطراف أصابعه يستثيره الوشاة ويؤلمه الأصدقاء.. وكانت فروسيته تأبى عليه أن ينتقم وتدفعه دوما إلى أن يقاوم بموسيقاه وأغانيه التى أشعلت وجدان الأمة.. ولكن مقاومة المحارب العنيد أصابها الوهن بعد أن تغير المناخ العام فراح ينسحب تدريجيا حتى دخل بإرادته فى شرنقة العزلة..
وقد كان الكبرياء القاسم المشترك الأعظم فى كل الدعائم التى قا مت عليها شخصية كمال الطويل الإنسانية والفنية حيث اختلط الكبرياء بالحرمان ليصنع أهم ملامحه الإنسانية كما كان الكبرياء أهم دوافعه للتعلم والتجديد.. وأيضا كان الكبرياء الدافع الأكبر الذي صنع منه النموذج الأمثل للفنان المسيس.. ولكى نتمكن من فك الشفرات الإنسانية والفنية فى شخصية كمال الطويل لابد وأن نتوقف بشىء من التفصيل عند كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة، حيث حفر الحرمان بصمة واضحة جلية على خلايا الطفل كمال محمود زكى الطويل فرغم أنه ينتمى إلى عائلة وفدية عريقة تجمع كل تفاصيل (شخصية مصر) حيث تجمع ما بين طنطا فى الوجه البحرى وأسيوط فى الصعيد إلا أنه عاش الحرمان في أقصى صوره خاصة بعد وفاة والدته حزنا وكمدا بعد زواج والده من سيدة أخرى.. وبعد وفاة الأم أرسل الأب ابنه كمال إلى مدرسة الأورمان الداخلية ورغم هذه القسوة إلا أن علاقة الطفل كمال بالشعر والموسيقى قد بدأت من الأب الذى كان شاعراً مشاغباً فى شبابه وصوفيا فى مراحل حياته المتقدمة، وقد استمع كمال صغيراً إلى قصة النشيد الشهير (يا عم حمزة) الذى ألقاه والده عندما كان طالبا فى السعيدية الثانوية ويحمل صرخة ضد الانجليز والملكية ويقول النشيد (يا عم حمزة.. إحنا التلامذة.. مايهمناش الجن ولا المحاكم.. واخدين ع العيش الحاف.. والنوم من غير لحاف.. مستبيعين مستقلين ومصر حره) وقام محمود الحفنى الطالب بنفس المدرسة بتلحين هذا النشيد ليصبح لسان حال كل الطلبة ثم ينتشر فى كل مصر مما دعى إدارة المدرسة إلى التحقيق مع الطالبين بتهمة (عشق الوطن) وتم فصلهما لمدة عام.
كما تفتح وعى الطفل كمال على الموسيقى والنغمات من خلال ارتباطه بعائلة والده حيث عاش أثناء بعثة والده إلى انجلترا فى كنف جده بطنطا وكان الجد يصحب حفيده إلى سرادقات الإنشاد فى مولد السيد البدوى ليستمع إلى أساطين التلاوة والإنشاد مثل الشيخ مصطفى إسماعيل.. وقد راح الفتى الصغير (يجتر) مخزونة من الموسيقى والغناء ليستأنس به فى مواجهة الوحدة والتعاسة التى حاصرته فى مدرسة الأورمان الداخلية وتلك التعاسة التى زادها حنينه الجارف لوالدته تلك الوحدة التى زادها إحساسه بالغربة بين مجموعة الطلاب كبار السن. ولم يجد كمال مفراً إلا الهروب بتعاسته ليعيش فى شرنقة من الحزن والمسكنة ولا يخفف عنه إلا جلوسه وحيدا (يدندن) بعض الأغنيات واستمع مدرس الأناشيد بالمدرسة (محمد صلاح الدين) إلى صوت كمال وأعجب به وقدمه إلى المفتش العام للموسيقى أحمد خيرت الذى كان التلاميذ يحفظون أناشيده ويرددونها. وأصبح كمال المطرب الرسمى للمدرسة والتى قررت إقامة حفل فى نهاية العام لتقديم مطربها الموهوب على أن يلبس (بدلة إسموكنج) ولكن الحرمان والكبرياء وقفا حائلا دون تحقيق هذا الشرط التعجيزى فلم يكن يستطيع طلب أى شىء من والده كما أن كبرياءه كان يمنعه من طلب أى شىء من أعمامه.. وضاعت الفرصة حيث أخذها طالب أخر موهبته أقل ولكنه فلوسه أكثر مكنته من شراء الإسموكنج.. وقد أدمت هذه الواقعة قلب الفتى الصغير فقرر هجر الموسيقى والمدرسة.. وراح ليبحث عن عمل إلى أن أسعفته هوايته الثانية وهى الرسم حيث عمل رساماً فى الأشغال العسكرية بالقوات المسلحة ليقوم بتصغير وتكبير الرسوم والخرائط حسب الطلب وبمرتب شهرى 12 جنيها على أن يعيش فى الإسكندرية وشد الفتى الرحال إلى هناك ورغم أن عمه كان رئيس لجنة الوفد بالإسكندرية إلا أن كبرياءه أبى عليه أن يذهب إلى عمه ليعيش معه أو يطلب مساعدته واختار أن يسكن فى (بنسيون) بسيط مقابل أربعة جنيهات في الشهر ووجد لديه وقتاً كبيراً من الفراغ فعاوده حنينه إلى الغناء والموسيقى وطغت عليه رغبته فى التعلم وفجأة قرأ عن معهد جمجوم لتعليم الموسيقى فذهب إليه على الفور ودفع ثلاثين قرشا المصروفات الشهرية وانتظم فى الدراسة بهذا المعهد لمدة أربع سنوات وتتلمذ على يد المطربين الكبيرين عبده السروجى وعباس البليدى والشيخ على الحارث. وفى هذه الفترة تعرف على الملحن رؤوف ذهنى (سكرتير الموسيقار محمد عبد الوهاب) وعلى عازف الكمان الشهير أنور منسى.
وفى عام 1947 ذهب كمال إلى القاهرة وراح يسأل عن صديقه أنور منسى فى معهد الموسيقى العربية فقيل له إنه فى بروفة مع الأستاذ عبد الوهاب على أغنية (إتمخطرى واتمايلى يا خيل) للرائعة ليلى مراد.. وبعفوية شديدة فتح كمال حجرة البروفة فانتبه عبد الوهاب وغضب فى صمت وسارع أنور منسى ليهمس فى أذنه (إنه صديق من الإسكندرية وليس له فى الموسيقى) فاستأنف عبد الوهاب البروفة ولكن الشاب كمال الطويل كان قد غرق فى خجله ودفعه كبرياءه إلى أن يقرر ألا يعود إلى الاسكندرية وأن يواصل دراسته للموسيقى فى القاهرة كى يكون مطربا وذهب إلى شارع المبتديان حيث معهد الموسيقى والمسرح من العميد أن يلتحق بالمعهد فاعتذر الرجل لأن الدراسة قد بدأت منذ ثلاثة شهور واكتشف العميد د. محمود الحفنى أن الشاب الواقف أمامه ابن صديقه القديم زكى الطويل فعقد له لجنة فورية قررت قبوله بالمعهد ولكنه اكتشف أن كل زملائه يفوقونه فى المستوى لأن أغلبهم من خريجى معهد فؤاد الأول ومنهم أحمد فؤاد حسن – على اسماعيل – فايدة كامل – عبد الحليم شبانة.. وقد لفت عبد الحليم نظر كمال الطويل وذلك لأنه صغير السن والجسم ولا يحضر إلا محاضرات التمثيل فقط فسأله عن ذلك فأخبره حليم بأنه طالب فى قسم الآلات يدرس آلة الأبوا وغاوى تمثيل واستراح الطويل إلى هذا الفتى الوديع وأخبره بأنه يفكر فى ترك الدراسة بالمعهد لأنه يجد صعوبة فى ملاحقة زملائه فى الدراسة. فقال حليم لاتفعل وسوف أمر عليك يومياً لمراجعة ما فاتك من المناهج. وتكررت اللقاءات بين حليم وكمال وتوطدت الصداقة بينهما.. كل منهما يتحدث عن أحلامه كمال فى عالم الغناء.. وحليم فى عالم الموسيقى.. ولكن حليم بذكائه وحساسيته الفنية اكتشف فى كمال ملحناً أكثر منه مطرباً فسأله ذات يوم لماذا لا تلحن واستحسن الطويل الفكرة وراح يبحث فى أشعار والده عن قصيدة يبدأ بها مشوار التلحين واختار قصيدة تقول (إلهى ليس لى إلاك عونا.. فكن عونى على هذا الزمان) وعندما استمع حليم إلى اللحن أعجب به واتفقا على اختيار زميلتهما فايده كامل – وكانت مطربة معتمدة بالإذاعة – لغناء القصيدة التى نجحت كثيراً مما دفع كمال إلى اختيار قصيدة أخرى لوالده تقول (قل ادعو الله إن يمسسك ضر.. ووجه ناظريك إلى السماء) وغنتها الموهوبة جدا شادية وفى المعهد وجد كمال أستاذه بالمدرسة محمد صلاح الدين مدرسا للنظريات الشرقية وقد ابتكر بوصلة تستطيع أن تعرف من خلالها معالم أى مقام شرقى..
وبعد نهاية العام الدراسى سافر حليم وكمال إلى الإسكندرية وألف كمال ولحن أغنية خفيفة تقول (يااسكندرية .. صبرك علىّ.. ضيعت المهية.. وبقينا فى ورطة قوية) وتحمس لها حليم وأخذ صديقه وذهبا إلى شكوكو ليسمع الأغنية ولكن شكوكو طردهما بعد أن قال لهما (إيه الأغنية الخواجاتى دى) والغريب أن شكوكو قام بخطف الطويل فى مركب نيلى بعد أن أصبح ملحناً شهيراً ولم يتركه إلا بعد أن لحن له (مونولوج) يقول (أحلفلك بشرفى وبمماتى).
تخرج كمال وحليم من المعهد وذهب كمال ليعمل فى الإذاعة بينما عمل حليم مدرسا بالزقازيق حيث كان راتبه الصغير (6-8 جنيهات) يضيع فى السفر واستطاع الطويل أن يلحق صديقه بأوركسترا الإذاعة براتب قدره 25 جنيها..
وكما اكتشف حليم ملكة التلحين لدى كمال.. اكتشف الطويل ملكة الغناء لدى حليم واستطاع اعتماده كمطرب بالإذاعة..
قامت ثورة يوليو 1952 لتعيد اكتشاف مجموعة كبيرة من المواهب كان فى مقدمتها عبد الحليم حافظ وكمال الطويل واستطاع عبد الحليم أن يجمع ما بين الطويل ومحمد الموجى الذى كان يحاول هو الآخر إثبات وجوده كمطرب بأغنيته الشهيرة (صافينى مرة) ولكنه فعل مثل الطويل حيث اكتفى بصوت حليم ليعبر عن ألحانه.. وكان وجيه أباظة أحد الضباط الأحرار قد أصبح مشرفا على الحفلات التى تقيمها الثورة. وفى الحفلة التى كان يقدمها يوسف وهبى وتم فيها إعلان قيام الجمهورية غنى عبد الحليم (صافينى مرة) ونجحت نجاحا مدويا.. وكان كمال قد لحن أغنيته القنيلة (على قد الشوق) لينطلق عبد الحليم من خلالها لصيح نجما فى عالم الغناء ولتصبح هذه الأغنية بداية لجيل جديد فى الموسيقى والغناء ولتصبح هذه الأغنية أيضا بداية لمشوار كمال الطويل فى التجديد والتجويد.
ورغم خلافات الطويل مع رئيس الإذاعة محمد أمين حماد (رجل صلاح سالم) والذى كان سببا فى نقل الطويل إلى وزارة المعارف كمفتش عام على المدارس الثانوية .. إلا أن الطويل وافق على ترشيح حماد له بتقديم أغنية فى عيد الثورة وذلك حبا فى الرئيس جمال عبد الناصر الذى استطاع أن يقفز بمصر والعرب قفزات عملاقة على كافة الجبهات فمن عدم الإنحياز إلى السد العالى إلى تأميم قناة السويس.. وكل هذه القفزات تفجر الطاقات الفنية لدى الطويل وعبد الحليم وصلاح جاهين وكل زملائهم.. وفجأة حدث العدوان الثلاثى على مصر وجلس الطويل على البيانو ليضع مشاعره فى بعض الجمل الموسيقية ثم اتصل بصلاح جاهين واسمعه تلك الموسيقى وعلى الفور كتب جاهين (والله زمان يا سلاحى) واتفقا على أن هذا اللحن لا يغنيه إلا السيدة أم كلثوم واتصل بها الطويل فطلبت أن يذهبا إليها على الفور.. ورغم رفض الإذاعة التسجيل باستوديوهاتها لأنها مهددة بالضرب إلا أن أم كلثوم صممت على التسجيل بالإذاعة وخرج هذا النشيد ليصبح لسان حال كل الشعب العربى.. وبعد الانتصار المصرى على العدوان الثلاثى قررت الدولة عمل مسابقة لاختيار سلام جمهورى جديد اشترك فيها 67 ملحنا منهم عبد الوهاب بلحنين.. ولم يتقدم الطويل للمسابقة ولكن اللجنة اختارت لحنه (والله زمان يا سلاحى) لدخول المسابقة.. وفجأة اتصل الكاتب محمد حسنين هيكل بالطويل وأخبره باختيار والله زمان يا سلاحى كسلام جمهورى وأن الرئيس عبد الناصر قد قرر له مكافأة خمسة آلاف جنيه.. ولكنه لم يأخذ المكافأة رغم أن الرئىس عبد الناصر قد سأله فى عيد الثورة أخذت المكافأة يا كمال؟ فقال (خلاص يا افندم) فقال عبد الناصر لكمال الدين حسين لازم ياخد المكافأة فورا ولكن كمال حسين ترك منصبه بعد يومين وجاء على صبرى الذى نزل بالمكافأة إلى ألف جنيه ثم أصبحت سيارة فيات دفع الطويل ثمنها.. أى أنه لم يأخذ المكافأة أبدا.. وبعد النجاح المدوى لنشيد والله زمان يا سلاحى تحول الطويل إلى لسان حال الثورة ومؤرخ إنجازاتها وذلك من خلال حرصه وحرص الدولة على أن يقدم أغنية جديدة فى عيد الثورة كل عام واجتمعت ألحان الطويل مع صوت عبد الحليم وأشعار صلاح جاهين وأحمد شفيق كامل ثم عبد الرحمن الأبنودى لتصبح الوقود الحقيقى لتفجير وجدان الشعب العربى من المحيط إلى الخليج. وتوالت الأغنيات الوطنية الرائعة مثل إحنا الشعب – بالأحضان – مطالب الشعب – المسؤلية – يا أهلا بالمعارك – صورة – حكاية شعب – احلف بسماها – بالدم – إنذار – إضرب إضرب – بركان الغضب – ابنك بيقولك يا بطل – صباح الخير يا سينا.
وبعد نجاح والله زمان يا سلاحى أعجبت أم كلثوم بالجملة اللحنية عند كمال الطويل وقدرته على التطور والتجديد خاصة بعد أن لحن لها بعض قصائد رابعة العدوية فأعطته أغنيتين إحداهما دينية لبيرم التونسى والأخرى (لسه فاكر) وسافر الطويل مع زوجته إلى أوروبا وبعد عودته استقبله مجدى العمروسى وقال له إن أم كلثوم قالت فى بيت مصطفى أمين كيف يسافر كمال إلى أوروبا رغم أن الآلاف لا يستطيعون السفر للعلاج؟ ولأن مشكلة كمال الطويل المزمنة كانت تتلخص فى كرامته وكبرياءه فلو تخيل مجرد تخيل أن أحدا حاول مس كرامته فإنه يأخذ منه موقفا ويسقطه من حساباته ولذلك قرر الطويل أن يقطع كل علاقاته مع أم كلثوم وأخبر كل من فى بيته أنه لو اتصلت أم كلثوم فإنه غير موجود، ورغم اتصال أم كلثوم عدة مرات إلا أنه لم يرد فطلبت من مصطفى أمين أن يعرف السر فقال له الطويل السر هو أننى لم أجد اللحن الذى يتناسب مع أم كلثوم، وظل على موقفه حتى رحلت أم كلثوم فسأله مصطفى أمين عن الحقيقة فأخبره بما قاله العمروسى فأكد له أن هذا لم يحدث أبدا وأن العمروسى فعل ذلك لكى يبعدك عن طريق أم كلثوم لكى تتفرغ لعبد الحليم ولاتنشغل عنه..
وبالفعل نجحت خطة العمروسى وقدم الطويل العشرات من الألحان العظيمة لعبد الحليم وقد بلغت هذه الألحان 56 أغنية فبعد (على قد الشوق) تواصلت الأغنيات الجميلة مثل : اسمر يااسمرانى – سمراء – هى دى هيه – الحلو حياتى – كفايه نورك علىّ – حلفنى – صدفه – بينى وبينك إيه – اللى انشغلت عليه – فى يوم من الأيام- حبيب حياتى – بيع قلبك – أبو عيون جريئة – نعم يا حبيبى – بتلومونى ليه – فى يوم فى شهر فى سنة – جواب – راح – بعد إيه – الحلوه – بلاش عتاب..
والغريب أن كمال الطويل مع بداية الثورة لم يكن متحمسا لفكر عبد الناصر ولكنه رأى فيه بعد ذلك أعظم زعيم أنجبته مصر. كما عاش الطويل معترفاً بفضل ثورة يوليو على الأغنية حيث أخرجتها من التطريب إلى التعبير ودفعت الفنانين الذين تولت رعايتهم إلى التواصل مع الأجيال السابقة عليهم فرغم أن الطويل وجيله قد خرجوا بشكل مباشر من جيل عبد الوهاب (السنباطى – زكريا أحمد – محمد القصبجى – أحمد صدقى – محمود الشريف) إلا أنهم تواصلوا أيضا مع جيل سيد درويش ذلك العبقرى الذى جعل (الغناء للجميع) فالأغانى تخرج من الناس لكى يغنوها، كما استفاد الطويل وجيله من عبقرية البساطة الآسرة عند محمد فوزى تلك العبقرىة التى ظهرت فى أوضح تجلياتها عند بليغ حمدى.
المهم أن الطويل وجيله كانوا يتعاملون على أنهم (جيل عبد الناصر) ويقدمون أغنياتهم الوطنية من منطلق (عشق الوطن) وهذا لم يكن موجودا من قيل.
وكان الطويل بشكل خاص يمتلك موهبة ثرية مدعمة بثقافة موسيقية اكتسبها من الدراسة والسماع ويكفى أنه بعد أن أصبح ملحنا مشهوراً ذهب لكى يلتحق بمعهد الكونسرفتوار وأخذ معه بليغ حمدى ومحمود الشريف ولكن التجربة لم تنجح. كما اتسم الطويل بقدرة كبيرة على فهم حقائق الأمور كما أنه النموذج العصرى للفنان الذى يتسم بالتقدمية ويبحث عن التغيير إلى الأفضل وينشد التقدم والتطور كما أنه ملحن دقيق فى عمله.. كما أنه نموذج للفنان المسيس. فبعد تجربته العظيمة مع ثورة يوليو وعبد الناصر. شعر بكثير من الغربة بعد رحيل عبد الناصر. ثم انضم إلى حزب العمل عندما تعرض رئيسه إبراهيم شكري لهجوم ضارى من السادات. ثم انضم الطويل إلى حزب الوفد (انتماءه العائلى القديم) وتم انتخابه عضوا بمجلس الشعب عام 1987 على قائمة الوفد وتشهد مضابط الجلسات بمدى الحيوية التى كان يتسم بها النائب كمال الطويل الذى فجر العديد من القضايا الجماهيرية الهامة – وكان الطويل فى سنوات حياته الأخيرة يؤكد على أنه لم يعد هناك الفنان صاحب القضية. وكان يرى أن الأغانى الوطنية التى تم تقديمها فى الخمسينات والستينات نجحت لأن دوافع وانفعالات الفنانين الذين قدموها كانت صادقة وكانت الدولة كلمة واحدة وكان الفن ملتصقا بالشارع أما الآن فالحسابات والتوازنات كثيرة.
ورغم انتقاد الطويل لأجيال الشباب فى الأغنية إلا أنه كان يؤكد على حقهم فى التعبير عن أنفسهم وواقعهم العصبى المضطرب وعلى أن يأخذوا الفرصة للتعبير عن ذواتهم حتى لو بالصراخ والرقص. وكان ىأخذ على هذه الأجيال قطع صلتها بالقديم وعدم حرصها على التواصل بالتراث ولذلك ولدوا ولادة غير طبيعية فأصبح الفن لديهم مجرد (تيك أواى) أو حاجة تسمعها وأنت (بتحلق دقنك) وكان الطويل يؤكد على أن هذا الفن نتاج للمناخ العام الذى تعيشه الأجيال الجديدة مما جعلهم يفتقدون القدرة على الحلم.
كما كان يؤكد على أن شركات الكاسيت قد لعبت دوراً كبيراً فى إفساد الغناء فى مصر من خلال الملايين التى تدفعها للمطربين تلك الملايين التى تؤكد على وجود عمليات (غسيل أموال) وجريمة شركات الكاسيت جعلت كل الأغنيات نغمة واحدة وإيقاعا واحدا ولذلك يملها الناس بسرعة. ورغم محاولات الطويل مساعدة جيل الشباب من خلال تبنيه لصوتى أحمد حسن ولينا الطويل إلا أن التجربة لم تنجح لأن المناخ قد تغير وأصبح من الصعب عليه أن يصلح ما أفسده الدهر. ورغم هذا فقد نجحت تجربته مع محمد منير فى أغنية (على صوتك بالغنا) التى قدمها فى فيلم المصير ليوسف شاهين كما يجب ألا ننسى تجربة كمال الطويل مع سندريلا الشاشة سعاد حسني تلك التجربة التى استطاع الطويل من خلالها أن يقدم موسيقى جديدة ومتطورة وأن يستثمر الإمكانات الفنية الهائلة لدى السندريلا ذات الذكاء الفطرى الكبير. كما كان الطويل يرى أن عبد الحليم حافظ استطاع أن يوظف ذكاءه لصالح فنه أما مطربو هذه الأيام فيبحثون فقط عن المال. وأن عمرو دياب مثلا ليس مطربا بقدر ما هو(أحسن المرقصاتية).
كما كان الطويل يؤمن بأن الفن كله سياسة وأن الفنان بلا موقف لاقيمة له وأن الفن لا يمكن أن يواجه الأزمات إلا إذا أعطيته (ميكرفون) بينما الآن نجد الجماهر فى واد وأجهزة الإعلام فى واد آخر. وحتى لو قدم الإعلام بعض الأغنيات لإسقاط الفريضة فلن يصنع (اتجاه عام) لأنه قد انفصل تماما عن قضايا وطموحات الجماهير.
ورغم انسحاب الطويل فى سنوات حياته الأخيرة من الحياة تدريجيا إلا أنه كان يؤكد دوما (لو اتحد العرب سيتحول الفنان إلى شعلة لاتنطفئ وكتلة من اللهب)..
لقد رحل الطويل مكتئبا وحزيناعلى العرب بعد أن فقدوا الكثير فهل يتحد العرب قبل أن يفقدوا كل شىء وقبل أن نموت جميعا تحت أقدام الاكتئاب والحزن
Discussion about this post