بقلم الأديب والشاعر
خالد عبد المنصف
اصطكت أسناني وتخشب جسدي الضئيل تحت وطأة موجة الصقيع التي جعلتني أتكوم في زاوية بعيدة عن شباك القطار الذي تندفع من بين زجاجه المكسور كتل من الهواء البارد.
علت سحب دخان السجائر عربة القطار ،الجميع يرتدي ثيابا شتوية ثقيلة جدا بل إن البعض يلتحف بطانية أو أكثر ،
الوقت لا يزال مبكرا جدا ، الحركة بطيئة خارج القطار ،السحب الداكنة تغطي السماء تماما وتوشك أن تفرغ حمولتها دفعة واحدة.
جلس إلى جواري طالبة يبدو أنها جامعية تحمل بين كفيها كتابا وكشكول محاضرات وحقيبة يد باهتة اللون وفي المقعد المواجه جلس رجلان أحدهما يبدو أنه مُعلم والآخر مزارع.
بدأت جموع المسافرين تندفع داخل العربة فقد أفرغت السحب حمولتها فجأة وهطلت الأمطار كسياط تجلد رصيف المحطة فتسمع لها أنات مكتومة متتابعة.
زعق القطار وتحرك فجأة ثم توقف فجأة لترتج العربة ،الجميع لا يحرك ساكنا ،دخل أحد الباعة ودون أن يفتح فاه كالعادة ليعلن عن بضاعته ،أخذ يوزعها على كل كرسي حتى آخر العربة لينتقل للعربة التالية ،استغربت البائع الذي لم أعهده بهذا الصمت الحزين.
نقلت بصري بين وجوه رواد القطار متفحصا الوجوه والوجوم الذي يعلوها ، العيون يملؤها نفس الحزن والوجوه تكسوها نفس الكسرة.
تحرك القطار ومضى الوقت بطيئا كسلحفاة ،قطع الصمتَ بكاءُ طفلة رضيعة تمسك ثدي أمها الهزيل والأم تربت على ظهرها وتنفجر الدموع من عينها كشلال لا يكف عن الجريان.
أقبل الكمسري متجهما.
_تذاكر..تذاكر يا حضرات
هتف الكمسري
ارتبكت الفتاة التي تجلس إلى جواري واصفر وجهها ،طالبها الكمسري بالتذكرة
_اشتراك..
أجابت الفتاة
حدجها الكمسري بنظرة خبيثة من وراء نظارته ذات العدسة المكسورة :
_ارنيه
تظاهرت الفتاة أنها تبحث عن اشتراكها ثم أردفت تستعطف الكمسري بنبرة يكسوها الأسف:
_للأسف نسيت الإشتراك!
هتف الكمسري بتحد
_إذن ستدفعين ثمن التذكرة مضاعفا.
وأمسك الكمسري بدفتره ليسجل ثمن التذكرة بينما تبكي الفتاة قائلة:
_والله ليس معي نقود فتش حقيبتي وخذ ما تجده من نقود.
امتعض الكمسري وكز على أسنانه الصفراء قائلا:
_ليس هذا شأني ادفعي ثمن التذكرة أو أسلمك لأقرب نقطة شرطة أو…فلتنزلي المحطة القادمة فورا.
اشتد بكاء الفتاة والجميع يخيم عليه الصمت …
استسلمت الفتاة وجمعت متعلقاتها استعدادا للنزول ،وقفت على باب القطار منتظرة المحطة القادمة والهواء البارد يصك وجهها …
وقبل أن يطالبنا الكمسري بالتذاكر قمنا أنا والمُعلم والمزارع ووقفنا على باب القطار ،استغرب الكمسري :
_إلى أين؟! ،تذاكركم!
_ليس معنا تذاكر سننزل المحطة القادمة كهذه الفتاة.
استشاط الكمسري غضبا قبل أن تهرول الأم برضيعتها لتلحق بنا.
هاج الكمسري من الغيظ وقبل أن يفتح فاه …
توقف القطار ليهرول جميع المسافرين ناحية الباب!
Discussion about this post