بقلم دكتور… عاطف معتمد
والخوف كل الخوف أن يتقدم الجهل والغباء !
هذا كتاب كاشف عن فكر العقاد الإسلامي ومنهجه، صدر للنور في عام 1953. والصنعة اللغوية هنا تحتفي بالإسهاب والإطناب والبلاغة، وهو ما قد لا يتحمله قارئ اليوم في 2023، رغم أن هذا الأسلوب كان ممتعا مرغوبا قبل أكثر من سبعة عقود.
يحتاج قارئ اليوم إلى 10 ساعات لقراءة هذا الكتاب والتأمل في محتواه رغم أن حجمه لا يزيد عن 140 صفحة وذلك لكثافة مادته وغزارة معلوماته.
ومن حيث الظاهر، يبدو أن قارئ اليوم بوسعه التخفف من نصف هذا الكتاب المكرور في حججه ومعلوماته. ولكن الحقيقة أن من هذا الكتاب وغيره نهل كثير من أصحاب المقالات عن الإسلام في القرن الماضي.
فما تراه مكرورا اليوم كان حينها طازجا رائدا، وكان العقاد أحد رواد تلك المرحلة في منتصف القرن العشرين.
(1)
يبدأ الكتاب بمراجعة القوى السياسية والثقافية التي أحاطت بالجزيرة العربية في القرن السادس، قبل ظهور الإسلام. وتمثلت هذه القوى في الفرس والروم وكان العرب بالنسبة لهما على هامش الزمن والتاريخ ولا قيمة لهم. كيف استطاع الإسلام القضاء على كل من الفرس والروم؟ ما القوة الغالبة التي مكنته من ذلك؟
حين أرسل المسلمون في عهد الرسول من يدعو ملك فارس للدخول في الإسلام “ضحك الملك غاضبًا أو غضب ضاحكًا” وأمر من يذهب إلى ذلك النبي الجسور فيأتيه به حيًّا أو ميتًا. وكان ما جرى للدولتين — الفرس والروم — يومئذ أعجب العجائب في تواريخ الدول من قديم وحديث؛ فقد هزمت الدولتان معًا في بضع سنوات من الجهة الجغرافية التي هان شأنها حتى لم يحسب له أحد حساب، من وراء الرمال، أو قل من وراء المجهول، أو من وراء الغيب.
(2)
يرفض العقاد التفسيرات التي تقول إن السبب في الانتصار هو خشونة البادية التي غلبت ترف الحضارة ونعمة الرخاء، وعنده أن الحضارتين كانتا تملكان قوات وجيوش لا تعرف من العيش غير خشونته وشظفه.
كما يرفض العقاد القول بأن العرب الذين حاربوا الفرس والروم وانتصروا عليهم كانوا جميعًا من أبناء البادية، فمنهم من عاش حياة الرخاء والوفرة. وينتهي العقاد إلى أن العلة تكمن في العقيدة التي حفزت أولئك المجاهدين على اختلاف الشعوب والأزمنة.
ولدى العقاد فإن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة “غالبة” وحسب في إبان النشأة والظهور، بل كانت قوة “صامدة” بعد مئات السنين. واستمرت في صعود وهبوط ومد وجزر حتى إذا انقضى القرن التاسع عشر كله والأمم الإسلامية مخذولة متخاذلة، والمستقبل كله للغرب”.
ثم انتهى القرن التاسع عشر، فكيف رأى الناس منتهاه؟
الاستعمار يتراجع، والإسلام تبرز له دول جديدة.
ويناقش العقاد أسباب بقاء الإسلام في كل من آسيا وأفريقيا ولماذا تقبله الملايين وعلى أي أسس اجتماعية واقتصادية تستمر حياته إلى اليوم.
(3)
نصف كتاب العقاد مخصص لما يمكن أن تسميه “جغرافية الإسلام في العالم المعاصر” حتى منتصف القرن العشرين. فهو يحدثك عن أعداد المسلمين في الصين والهند وآسيا وافريقيا. ويتنقل بك إلى الفرق والمذاهب الإسلامية والحركات الإصلاحية ورواد النهضة والتجديد معرجا على كل من إندونيسيا وإيران ومراكش ووادي النيل والسودان والحبشة.
وفي الاستعمار الحديث الذي ظهرت فيه إسرائيل قبل سنوات قليلة من تأليف الكتاب يقول العقاد:
“ولكن إسرائيل على قوة الدول التي تسندها لا تعيش ولا تتمكن في موضعها بين أمم تقاطعها وتبعد المسافة بين مواردها ومصادرها، وباب الأمل في هذا الجانب أن المصير لا يعدو حالة من حالتين: إما أن تسيطر إسرائيل على أمم العرب ونهضتها، وإما أن تنخذل دون هذا المطلب العصي فتنهار أو تقبع في أضيق حدودها”.
يرى العقاد أن مصر تمضي في سبيل الحرية، ويلخص حال مصر بقوله إنها تمضي قدمًا إلى مرحلة التحرر وذلك لأنها:
” خرجت من السيادة العثمانية، ثم خرجت من الحماية البريطانية، ثم تخلصت من حكم الملكية الرثة التي صار بها الزمن إلى أسوأ أطوارها في عهد فاروق ربيب الفساد، ابن أحمد فؤاد صنيعة الحماية، ابن إسماعيل رائد الخراب والاحتلال”.
(4)
النصف الثاني من الكتاب أقرب إلى ترجمة وتعليق وتحرير على ما صدر من كتب ومقالات في المصادر الأجنبية عن حال المسلمين ومستقبلهم، سواء من دراسات استشراقية حديثة أو مقالات صحفية وسياسية.
وعلى غرار طريقة دوستيوفسكي في عودة المسيح للأرض في رواية “الأخوة كرامزوف” يفترض العقاد عودة محمد عليه السلام إلى العالم المعاصر ليحل المشكلات التي ظهرت بعد قرون طويلة من رسالته.
يجزم العقاد بقول قاطع بأن محمدا عليه السلام حين توجه له الأسئلة حول المذاهب الاجتماعية الحديثة فسيكون موقفه منها على النحو التالي:
– لا حاجة إلى السؤال عن الديمقراطية، فإن سابقة الإسلام فيها أصلح من كل سابقة.
– ولا حاجة إلى السؤال عن الفاشية، فإن الإسلام يمقت الجبارين والمتجبرين.
– ولا حاجة إلى السؤال عن الشيوعية الماركسية، فإنها ملعونة في كل دين.
– وحين يسأل النبي عليه السلام في الاشتراكية، فسيقول ما قاله القرآن حيث نهى أن تكون الثروة دُولة بين الأغنياء.
(5)
ويختم العقاد كتابه بالسؤال حول الغد فيقول:
“إذا بقي للإسلام إيمانه والمؤمنون به على هدى وبصيرة، فلا خطر عليه من أقوياء اليوم ولا من أقوياء الغد المجهول، وأخطر من كل خطر أن يتخلف مكان العلم والبصيرة، ويتقدم مكان الجهل والغباء”.
Discussion about this post