بقلم دكتور… عاطف معتمد
في عام 2005 تسبب الفيلم الأمريكي الشهير “مملكة السماء Kingdom of Heaven” في دهشة لنا نحن المتابعين العرب.
لقد ظن العوام منا أن فيلم يوسف شاهين “الناصر صلاح الدين” كان متحيزا لبني قومه ضد الأوربيين فأظهر الشرق ضحية تدافع عن نفسها وتناصر الحق بينما أظهر الغزاة الأوربيين مستغلين للصليب رافعين إياه خديعة لنهب الشرق.
مصدر الدهشة أن فيلم “مملكة السماء” الذي أنتج في والت ديزني وحقق شهرة واسعة لا يخرج كثيرا عن رؤية شاهين في فيلمه الذي ظهر للنور في عام 1963.
وإذا كان شاهين قد جعل صلاح الدين الأيوبي بطلا للفيلم المصري فإن الفيلم الأمريكي “مملكة السماء” والذي جاء بعده بأربعين سنة جعل البطل حدادا فرنسيا بسيطا انضم لإحدى الحملات الصليبية مخدوعا بأهدافها المقدسة.
في الفيلم الأمريكي يصبح الحداد بطل معركة القدس، تلك المدينة التي كان يجب أن تكون “مملكة السماء” أو كما يحلو للبعض ترجمة الفيلم ترجمة حرفية بعنوان “مملكة الجنة”، والعارفون للفقه المسيحي يفضلون بالطبع “السماء” لا “الجنة”.
ملايين البشر يشاهدون الأفلام حول العالم، وأقل منهم بكثير يقرأون كتب المؤرخين. ومن بين كتب المؤرخين التي تستحق أن نطالعها في مسألة الحروب الصليبية الكتاب المرفق غلافه الذي ألفه المؤرخ المصري الراحل قاسم عبده قاسم، والصادر في الكويت قبل 33 سنة.
في كتابه “ماهية الحروب الصليبية” يدخل قاسم مباشرة في الموضوع دون مواربة أو زيغ أو هروب فيقول لك فيما معناه:
“على مدار 300 سنة تسبب العدوان الذي قام به الاستعمار الأوروبي على العالم الإسلامي – والذي بدأ من 1095م واستمر حتى 1400م – في إنهاك بلادنا وإضعاف قواها وتعطيل قوى الإبداع فيها، فضلا عن تعطيل عوامل النمو في الحضارة الإسلامية، بل إن المنطقة العربية بعد انتهاء هذه الحروب دخلت في مرحلة ضعف ووهن وتهالك مما مهد المسرح تماما لأن تقع فريسة للسيطرة العثمانية. صحيح أن العثمانيين قدموا حماية للعالم العربي من الاستعمار الأوروبي لثلاثة قرون لاحقة لكنهم قدموا حماية لجسد واهن مريض منهك دون أن تظهر فيه روح الحضارة والتطور والنمو والازدهار “.
في المقابل يذهب عباس محمود العقاد إلى تفسير آخر للضعف الذي أصاب المسلمين بعد الحروب الصليبية، ففي كتابه الذي عرضناه أمس عن “الإسلام في القرن العشرين” (الصادر في 1953) يرى أن المسلمين أصيبوا بغرور الانتصار بعد أن رأوا الغرب المسيحي “الأحمق الجشع الفظ عديم الحضارة والإنسانية”.
يبدأ كتاب قاسم عبده قاسم – والمتوفر على الإنترنت – بتحرير المصطلحات والظروف التاريخية التي نشأت فيها حروب الفرنج (وهو الاسم الذي كان يطلقه المؤرخون المسلمون على ما سيعرف بعد قرون لاحقة باسم الحروب الصليبية).
يتناول الكتاب أيضا كيف أن الحملات الصليبية التي لقيت هزيمة وفشلا في معظم الأحوال صورت بآلة الدعاية الغربية إلى مثال لانتصار الشجاعة والإقدام والنزاهة ونصرة الدين رغبة في استمرار استنزاف الشعوب الأوروبية وجمع التبرعات لتمويلها ورغبة في استمرار استغلال اسم الصليب في منح عشرات آلاف مرتكبي الذنوب الدنيوية صك “الغفران الصليبي” وتطيرهم من الآثام نظير مشاركتهم أو تبرعهم للحملات.
لا يفوت الكتاب التمهيد للموضوع بعرض رحلات الحج المسيحي قبل الحروب الصليبية والتي كانت حملات سلمية جرارة إلى القدس ينضم إليها الآلاف في مناسك مقدسة، ولولا تعرضها لغارات ونهب في الطريق لما احتاجت إلى حماية عسكرية مسيحية، وكانت هذه نقطة البداية على ما يبدو لوضع البذرة الأولى لما سيعرف لاحقا باسم “الحج المسلح” أو “عسكرة الحج” المسيحي إلى القدس والذي سيمهد الطريق إلى الحملات الصليبية الشاملة.
لا يوجد حدث في التاريخ ترك أثرا على الفكر والسياسة والفنون والآداب في الشرق والغرب بمثل ما تركته الحروب الصليبية التي دامت 300 سنة.
يعود الكتاب الذي بين أيدينا إلى مراجع عديدة لا تحلل فقط الحروب من الناحية العسكرية والتاريخية بل تعرض للأساطير التي مهدت لهذه الحملات على شاكلة نهاية العالم عند حدود الألفية.
لا أود أن أطيل عليكم، وسأختم بمشهد النهاية في فيلم “مملكة السماء” وهو مشهد أثر فينا جميعا.
فبعد أن عاد الحداد الفرنسي إلى عمله التقليدي بعد انتهاء معركة القدس وتسليم المدينة لصلاح الدين مرت عليه في قريته الصغيرة في الجبال الفرنسية حملة صليبية جديدة وطلبوا منه الانضمام معهم تقديرا لبطولته المعهودة في الحملة السابقة وشهرته التي أنقذت دماء المسيحيين وحفظت سمعتهم.
وحين رفض الانضمام إليهم لم يقل لهم إنكم تجار باسم الصليب، ولم يقل لهم إنكم تنهبون الشرق استغلالا باسم المسيح بل كان رجلا شهما ذكيا فطنا وقال لهم:
“عذرا….لست إلا حدادا” !
Discussion about this post