بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى …
عندما يكتب العقاد عن زعيم المسرح :
الريحانى كان منوما مغناطيسيا
نجيب إلياس ريحانة الشهير باسم نجيب الريحاني (21 يناير) 1889م \ 20 جُمادى الأولى 1306هـ – (8 يونيو) 1949م \ 12 شعبان 1368هـ)، يقول جوجل فى التعريف به هو مُمثل فُكاهي ،ويقول تاريخ الفن العربى إنه زعيم المسرح الفكاهى العربى فى النصف الأول من القرن الماضى ،وتقول ذائقة الفن العربى لدى مشاهديه إنه واحد من أهم ـ إن لم يكن أهم ـ ممثلى المسرح والسينما الفكاهيين العرب رغم رحيله منذ ما يساوى أربعة وسبعين عاما وأياما،يؤكد أهميته حضور أعماله السينمائية وكثافة مشاهدتها كلما عرضت رغم آلاف وآلاف الأعمال التى تلتها ولم تستطع آن تهيل عليها تراب النسيان أو إهمال المشاهد العربى لها.
كنت أرتب بعض أوراقى الصحفية القديمة ووقعت على بعضها وقت عملى بمجلة “السينما والناس” وكان من حظى أ ن كلفنى صاحب المجلة ورئيس تحريرها الراحل الدكتور عبدالمنعم سعد رحمه الله بعمل حلقات عن نجيب الريحانى،كان اسمها”نجيب الريحانى ..موليير العرب وزعيم الضحكة المحترمة”،كان ذلك عام 1997،وبعدها بشهور كلفنى بعمل مذكرات أو حلقات عن الفنان عادل إمام،واخترت لها عنوان”عادل إمام زعيم الغلابة”،وكان مبرر اختيارى للفظ الزعامة لكل منهما ما شاع بعدها ولصق بعادل إمام حتى اليوم منذ قدم مسرحيته الشهيرة “الزعيم”،لكننى كنت أفضل له زعامة الغلابة انطلاقا من بداياته المسرحية ودوره صبى المحامى فى مسرحية “أنا وهو وهى”وجملته الشهيرة التى بدأت شهرته”بلد بتاعة شهادات صحيح”،وانطلق بعدها فى رحلته المسرحية والسينمائية حتى يومنا وهو يحمل لقب نجم النجوم لم يتنازل عنه حتى وهو يتخطى الثمانين بسنوات ا،لكن ضحكته المسرحية والسينمائية لم تكن دائمة بريئة ،وهو ما لفت نظرى للتفريق بين الرمزين الكبيرين واخترت للريحانى “زعيم الضحكة المحترمة”من هذا المنطلق.
وكانت نعكشتى فى أوراق قديمة عندى سبيلا لمعرفة لماذا صار الريحانى كما عرفه الناس ممثلا كبيرا ومؤلفا مسرحيا وافر الإنتاج ،صار كما عرفوه ولم يعرفوا لماذا صار هكذا،فقليلون فقط ممن عاصروا بداياته من عرفوا السر ،وأن الكبير لا ينبت من فراغ ؛فقد كان الريحانى كثيرا السُّمّار والمؤانسين فى لياليه من الرفقة والأصحاب ،لكنه لم يكن يسامر الفارغين التافهين لأنه كان سيد تلك المجالس والمسامرات رغم تواضعه وادبه الجم،ينتقل فى خفة بين جد القول وهزله رائع النكتة والقفشات،فقد كان راوية شعر من الطراز الأول يحفظ معظم ديوان شوقى وحافظ إبراهيم،وشهدت مجالسه التى حكاها مجالسوه كثيرا من المناقشات الأدبية الرائعة حول أدباء الجاهلية والإسلام وأدباء الشرق والغرب المحدثين،وكان تمكنه من اللغة الفرنسية ييسر له رواية شعر أدباء الفرنسية وتفسير معلنيه وبلاغته بشكل يدهش مجالسيه.
العقاد يكتب عن الريحانى
ولم يكن غريبا أن يكتب العقاد العظيم بقامته وهامته المتفردة عن الريحانى بقامته الفريدة أيضا فى دنيا الفكاهة الساخرة المتفلسفة.نعم كان العقاد أول من سارعوا بالكتابة نعيا للريحانى فى مجلة “الكواكب” بعد رحيله بأسبوع فى يوليوعام 1949 ،كتب راثيا له مفندا أسباب عظمته الفنية:”نجيب الريحانى خلد الله ذكراه وعوض الفن الجميل فيه ـ هو الممثل الوحيد الذى أستطيع أن أقول إننى عرفته من الوجهة الفنية معرفة كافية لتقديره ونقده،لأننى رأيته فى جميع أدواره التى مثلها منذ ظهوره على المسرح العربى فى أثناء الحرب العالمية الأولى،فلا أذكر أن رواية واحدة من رواياته فاتتنى طوال هذه المدة،لأنه هو الممثل الوحيد الذى يغنيك تمثيله أحيانا عن موضوع التمثيلزإنه رجل خلق للمسرح ولم يخلق لشئ غيره”.ويمضى العقاد العظيم يفند رأيه فى الريحانى:”هو على المسرح كالسمكة فى الماء ..دخوله إليه وحركته عليه وكلامه وسكوته وإيماؤه وقيامه وقعوده طبيعة من صميم الطبيعة،تنسيك كل تكلف يحتاج إليه الفنان حين يتنقل من العالم الخارجى إلى عالم الفن والرواية..وليس ينطبق عليه فى هذه الحالة أن تقول “انه يلبس دوره أو أن دوره قد استولى عليه،تنسى الازدواج بين شخصية الدور وشخصية الممثلحين تنظر إليه،وهى مزية تأتى من طريقين،إحداهما قدرة تنويمية ،كأنما ينوم الممثل نفسه تنويما مغناطيسيا لإيحاء الشخصية إليها وصرفها فى حالة التنويم عن كل ماعداها.”
لقد كتب العقاد عن الريحانى كشهادة للأخير وقدراته وفنه المحترم وكتب غير العقاد كالموسيقار محمد عبد الوهاب الذى كان ميلاده الفنى من خلال فرقة الريحانى المسرحية وكتب الشاعر الكبير عزيز أباظة يرثى الريحانى وفنه الباذخ وكتب بديع خيرى رفيق الريحانى فى رحلة الخلود وغيرهم وغيرهم ،والمعنى واحد هنا وهناك فالفن الباذخ والفنان الباذخ يبقى دائما فى كتاب الخلود بين الناس كأنه يحيا بينهم ،بينما من يستسهل أسباب النجومية والأضواء ويتمسك بها بشتى الوسائل ويستجديها بالتافه من الأعمال والأقوال هو قيمة ميتة بالفعل ولو كان صاحبها حيا بين الناس.
نجيب الريحاني كتب مقالاً مؤثراً وبليغاً بصحيفة “اللطائف المصورة” ينعى فيها كلبته الوفية “ريتا “التي ماتت قبله ب3 ايّام قال فيه:
“هي الأنثى الوحيدة التي تعرف الوفاء والإخلاص، لأنها أعز مخلوق لدي وأقرب صديقاتي إلى قلبى.. كلبتي حيوان أتحدث إليه، يفهم ما أريد أكثر من أي إنسان، هي أليفتي في المنزل، وصديقتي في الشارع، وزميلتي في العمل، تشاركني في التمثيل، ولا تتعبني فى إخراج دورها، فهي تجيده ولا تنساه ولا تتأخر عن موعد العمل، ومن هنا كانت هي الممثلة الوحيدة التي أبقيت عليها من أفراد فرقتي.
وعندما سافرت إلى لبنان فارقتها لأول مرة في حياتي، أصيبت بمرض من جراء حزنها العميق، وكنت أراها كثيراً في المنام وبعد عودتي لم تكد تراني بعد غيبة حتى وقفت بعيدة عني، وهي التي كانت تتحرق شوقاً إلى لقائي، واغرورقت عيناها بالدموع وكأنها تقول: إخس عليك يا خاين العيش والملح”.
ويضيف الريحاني في مقاله: “وفي الأيام الأخيرة اعتدت ألا أتركها لحظة، إذ إنها لا تزال في أيام الحداد على فقيدها وفلذة كبدها الكلب “شَكَل” لا رحمه الله مطرح ما راح! فقد كان عفريتا في صورة كلب.”
ونشر الريحاني صوراً له ولكلبته وكتب تحتها “بارعة في تطفيش الزائرين غير المرغوب فيهم”.
المفارقة العجيبة أن الريحاني توفي بعد نشر المقال بيوم واحد وبعد 3 أيام من وفاة كلبته كأنه لم يتحمل فراقها، والأكثر غرابة وإثارة، أنه كتب نعيه بنفسه وقبل وفاته بـ15 يوماً فقط وذلك في 24 مايو.







































Discussion about this post