عشْرةُ أعوامٍ مَضَتْ وأنا أرى بين يديِّ أُمّي قطعةَ قماشٍ ، تُقلِّبُها بين يديها بينَ الحينِ والآخرِ ، وتُعْمِلُ فيها الإبرةَ والخيطَ المُلَوَّنَ، وأنا لا أفْقَهُ شيئًا ممّا يجري…
لا أذكرُ أنّها نزِلَت إلى السُّوقِ يومًا من أجلِ شراءِ خيطٍ أو زِرٍّ ،ومعَ ذلكَ كنتُ أرى أمامَها العديدَ من مواسيرِ الخيطانِ الملوّنةِ كألوانِ قوسِ قُزَحٍ ، وكلّما سألتُها عنها ومِنْ أينَ أتَتْ بها، كانت تجيبُني بأنّها لا تزالُ تحتفظُ بها من بيتِ أهلِها وقد اصطحبَتْها معها يومَ نقلَتْ جهازَ عُرسِها لأنّها كانتْ تُحِبُّ “التطريز” في عزوبيّتِها، وهو هوايتُها الوحيدةُ.
لم تكنْ أُمّي لتَنْشَغِلَ بهذِهِ القطعةِ مِنَ القُماشِ عن شؤونِ بيتِها، وما كانَ ذلكَ على حسابِ الإهتمامِ بعائلتِها المؤلّفةِ من صبِيَّيْنِ، بل كانَ عملُها بها على حسابِ راحتِها فقطْ بعدَ أنْ تَفْرَغَ من تأمينِ واجباتِها المنزليّةِ كاملةً.
عشرُ سنواتٍ وأمّي لم تملَّ ، أو تشعرْ بالرتابةِ، بل كنتُ أراها تغرِزُ إبرتَها مشفوعةً بابتسامةِ قائدٍ مَزْهُوٍّ بانتصاراتِه بعد خوضِهِ معركةً مصيريّةً.
…واقتربَ موعدُ عُرسي، فشُغِلَتْ أُمّي بتحضيرِ لوازمِهِ، كيف لا وأنا ٱبنُهاالبكرُ، باكورةُ زواجِها، والذي طالَ انتظارُها لتفرحَ بِهِ بعد تعبِ السّنينِ كلِّها، وتنالُ لقبَ جدّةٍ بعدَ رحلةِ شبابِها وهي وحيدةٌ، رأسُمالِها إبنانِ وَهَبَتْها إيّاهُما الحياةُ بعد أنْ حرمَتْها حنانَ الزّوجِ ورعايتِهِ واهتمامَ الأهلِ ومساعدَتِهِم، فصرفَتْ أفراحَها في معرضِ حضانتِها لهُما بلا حسابٍ، وبذَلَتْ
عاطفةَ شبابِها بسخاءٍ على مذبحِ الوفاءِ لأمومةٍ خالصةٍ في مملكةِ حبِّها البنويِّ، بحيثُ لم تكنْ لَتَرَى نورَ الحياةِ إلّا منبثقًا من نورِ عينيهما …
ونسِيَتْ أُمّي قطعةَ القُماشِ ، ولم أعدْ أراها بين يَدَيْهَا لٱنهماكِها بالتّحضيرِ لعرسٍ لم تقبلْ أنْ يكونَ إلّا نظيرًا لِفَرَحِ أيِّ عريسٍ لم يفقدْ والدَهُ، لا بل أرادتْهُ أنْ يكونَ الأجملَ والأروعَ.
…وكانَ يومَ عرسي، وأنا أنتظرُ خروجَ أمّي من غرفتِها لٱستقبالِ المهنِّئينَ والمشاركينَ بحفلةِ زفافي.
فجأةً لمعَتْ في فكري خاطرةٌ جعلَتْنِي أذوبُ خجلًا من نفسي …
يا إلٰهي! كيف لم أتذكّرْ أمّي وأنا أتجوّلُ مع عروسي في السُّوقِ عندما كنُّا نشتري ثيابَ عرسِنا؟!
كيف لم أتذكّرْ بأنَّ أمّي لم تشترِ ثوبًا لها منذُ وفاةِ أبي؟!
خواطرُ عصفَتْ في بالي فأربَكَتْ نفسي وأخجلَتْ فرَحي، وزعزعَتْ كياني…
وتسمّرَتْ عينايَ على بابِ غرفتِها والكلُّ بانتظارِ إطلالتِها لتكونَ مع أقاربي والجيرانِ الذين أتَوْا لمشاركتِنا فرحتَنا، والتي لم تكنْ أمّي لَتُقصِّرَ يومًا في قيامِها بواجباتِها مع أحدٍ.
بدأَ العرقُ يتصبَّبُ من جبيني…ماذا تُراها فاعلةً الآنَ؟
هل تبحثُ بين ثيابِها السّوداءِ عن ثوبٍ أقلَّ سوادًا لترتديْهِ يومَ عُرسي؟
أمْ تُراها تحاولُ أنْ تبحَثَ عن عِقدِ عُرسِها الأبيضِ لِتزيّنَ بهِ عُنُقَها الذي لم يعرفِِ الدُّرَرَ والحُلى باستثناءِ بعضِ حبيباتِ العرقِ التي كانتْ تتلألأُُ فوقَهُ في عرسِ جهادِها اليوميِّ مع لقمةِ العيشِ المجبولةِ بطُهرِ شرفِ العملِ وإنتاجِها اليدويّ.
وما هي إلّا دقائقُ خِلْتُها شهورًا وأنا أنتظرُ …
حتّى فُتِحَ البابُ..
وظهرَتِ امرأةٌ رائعةُ الجمالِ، حوريّةٌ، غجريّةٌ. وعرفْتُ حينئذٍ أنَّ أمّي قد طرّزَتْ قطعةَ القُماشِ لتصنَعَ منه ثوبًا لهذِهِ الصّبيّةِ الجميلةِ التي لم تُعَرِّفْني بها أو تُحدِّثْني عنها أبدًا.
يا إلهي!!!! ماذا؟
مَنْ أرى؟؟!!!
إنّها أمّي! أمّي! صاحبةُ ذلكَ الثّوبِ الذي طرّزَتْ قُمَاشَهُ طوالَ عشْرِ سنواتٍ ببريقِ عينيها وبَرَكةِ يديْها!
عشرُ سنواتٍ وأمّي تنسُجُ ثوبَها برجاءِ فرحَتِها، وتستعدُّ لترتديهِ يومَ زَفافي، وأنا لم أكلّفْ نفسي ولو ساعةً أنْ أفكّرَ بها !!!
ٱشتريْتُ لعروسي كلِّ ما يُمكنُ أنْ تحلُمَ بِهِ فتاةٌ من مُصاغٍ وحُلًى ، ولم يخطُرْ في بالي أمّي، تلكَ العروسُ التي عاشَتْ عَنَسَ شبابِها مع طفلين، حُلُمَيْنِ، بل أمنيتينِ ستَتَحَقَّقُ اليومَ إحدَاهُما.
وهُرِعَتْ إليها دموعي تسبِِقُني لتحضُنَها وتُعانِقَها : أنتِ أجملُ مِنَ العروسِ يا أمّي.
فضمّتْني إليها ودمعةٌ حارقةٌ ذَرَفَتْها فاستقرَّتْ فوقَ خدِّي: وأنتَ أجملُ حُلُمٍ في حياتي يا ولدي.
“رحلتي مع الحياة ”
“عايدة قزحيا”
Discussion about this post