بقلم دكتور … محمد الدليمي
اللفظ في اللغة العربية :
كثيرا ما شدني موضوع اللفظ والمعنى إلى اللغة العربية وآدابها؛ فلربما عندما يقرأ القارئ مقولات الجاحظ وابن رشيق وابن قتيبة والجرجاني وابن جني وغيرهم من علمائنا الأفاضل، يصطدم باللفظ فيزهو بزهوه وجماليته، والفريق الآخر من القارئين يصطدم بزهو المعاني وروعتها وزينتها في السياق . وكل ما رأها الفريقين لا يعني شيء للفظ والمعنى، وإنما كانت نظرة سطحية ليس لها أي دور في قوة السياق.
العامية عند العرب: ومما لفت نظرى أن كثيرا من الكلمات العامية العربية هى فصيحة بدخول الإبدال أو الحذف، وبعضها لهجات صحيحة، ومن ذلك.
– حكى أبو الحسن عن العرب (سلامُ عليكم) غير منون. قلت: وهو ما يقوله العرب في عاميتهم.
– قولهم: ذيب وبير، وخطية، وقريت وبديت وتوضيت، وقولهم قصيت أظفارى. قلت: وكل ذلك يقوله العرب.
– إشباع الكسرة كقولهم عليكى ومنكى. قلت: وهذا لم أكن أعرفه قبل ذلك.
– كلمة (بابا) صحيحة، وقال بأبأ الصبى إذا قال بابا .
– وبعض الكلمات التى نظنها عامية هى وحدها الفصيحة الصحيحة على خلاف المشهور، ككلمة (عباية) وهى كنهاية وسعاية ورماية وغباوة وشقاوة، فلا مجال لظهور الهمزة. ولا صحة لقول بعض المتفاصحين عباءة.
اللفظ في العربية يعني كل شيء؛ لغتنا ليس لها معاني إلا ما ندر ، ولكن لها إلفاظ معاني وهنا نبني بيت القصيد، دعونا نتأمل اللفظ قليلا هو يتكون من حروف وتلك الحروف لها مخارج طباق واستعلاء وهمس …الخ وكل مخرج محسوب للفظ بدقة ويقول الإمام ابن جنى صاحب الخصائص؛ الكتاب يتناول فقه حروف الأبجدية، التى جعلها تسعة وعشرين حرفا، وجعل لها ستة عشر مخرجا. اهتم الكتاب بقضية إبدال الحروف وحذفها وزيادتها، تلك التى استفاض فى توضيحها وشرحها حرفا حرفا، كما اهتم أيضا بتفاصيل اللغة وحكمتها نطقا وكتابة.
وحدثنا عن مخارج الحروف وصفاتها، وعن الإمالة ولهجات العرب ولغاتها، وله تعليقات رائعة على الحروف، فهو القائل «واعلم أن الراء لما فيها من التكرير لا يجوز إدغامها فيما يليها من الحروف، لأن إدغامها فى غيرها يسلبها ما فيها من الوفور بالتكرير، فأما قراءة أبى عمرو {يغفر لكم} بإدغام الراء فى اللام فمدفوع عندنا وغير معروف عند أصحابنا، وإنما هو شيء رواه الفراء ولا قوة له فى القياس» وقال عن حرف الصاد «أحد الحروف المستعلية التى تمنع الإمالة، والحروف التى تمنع الإمالة سبعة وهى الصاد والضاد والطاء والظاء والخاء والغين والقاف» وقال «واعلم أن الضاد واحدة من خمسة أحرف يدغم فيهن ما قاربهن، ولا يدغمن هن فيما قاربهن وهى الراء والشين والضاد والفاء والميم» كما ذكر القلقلة وحروفها، ونبهنا إلى غيرها من الحروف التى تؤدى حركة نفخ أقل ضغطا من القلقة «الزاى والظاء والذال والضاد» كما أكد على أن الحركات هى حروف صغيرة «اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهى الألف والياء والواو، فكما أن هذه الحروف ثلاثة فكذلك الحركات ثلاث، وهى الفتحة والكسرة والضمة، فالفتحة بعض الألف والكسرة بعض الياء والضمة بعض الواو.
مثالا لما ذكرنا نقول طالوت الطاء حرف استعلاء وقوة ( مفخم ) ، ونقول جالوت وحرف الجيم قوي ( مرقق )، فأيهما ينسجم مع القوة والقيادة فمؤكد ذلك مع طالوت ؛ فهكذا كانت بلاغة القرآن الكريم مع اللفظ ونسج السياق .
بلاغة الحروف:
«واعلم أن هذه الحروف كلما تباعدت فى التأليف كانت أحسن، وإذا تقارب الحرفان فى مخرجيهما قبح اجتماعهما، ولا سيما حروف الحلق» «أقل الحروف تآلفا بلا فصل حروف الحلق» «ويتلو حروف أقصى اللسان وهى القاف والكاف والجيم، وهذه لا تتجاور البتة» «وكان تضعيف الحرف عليهم أسهل من تأليفه مع ما يجاوره» قلت: وهو ما عبر عنه البلاغيون بعد ذلك بتنافر الحروف.
كما وضع قاعدة عامة حول زيادة الحرف وحذفه، وهو باب واسع فى العربية «متى رأيناهم قد زادوا الحروف فقد أرادوا غاية التوكيد، كما أنا إذا رأيناهم قد حذفوا حرفا فقد أرادوا غاية الاختصار»
مثالا لما كان من مخارج الحروف قول الأعرابي ( تركتها ترعى الهع خع ).
قضايا لغوية:
– ذكر قول الشاعر:
يا من رأى عارضا أسر به
بين ذراعى وجبهة الأسدِ
ثم قال «أى بين ذراعى الأسد وجبهته» قلت: وهذا يصحح أسلوبا اشتهر بين كتابنا المعاصرين، وقد كنت أظنه لا يصح، لأننى لم أجده قبل ذلك فى الموروث
– قال عن قوله تعالى {ألقيا فى جهنم} إن أبا عثمان قال «أراد ألق ألق… فثنى ضمير الفاعل فناب ذلك عن تكرير الفعل» قلت: وقد اعتبره آخرون من باب مخاطبة الواحد بلفظ الاثنين
– وقال عن قول عنترة (شربت بماء الدحرضين) إن الباء زائدة أو بمعنى فى. قلت: قال ابن فارس وغيره إنها بمعنى من.
واللفظ هو من يظهر قوة المعنى الذي كساه في حروفه مجتمعا، – وهذا لا يدرس على إنه لفظ ومعنى لأن معناه جامد في حروفه لو تغير السياق لبقى المعنى واحدا
قال تعالى : ( ولأضلنهم ولأمنيهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) فلفظة الضلال لو جاءت في سياق اخر لوجدناها تعطي نفس المعنى لا يتغير بالبته معناه ( تاه ) ولفظة أمنية أينما جاءت تعطي معنى ( الأمل ) ، ولفظة الأنعام هي المواشي لا يتغير معناها أيضا ، وهكذا دواليك لباقي ألفاظ المعنى الحقيقي؛ واللفظ الحقيقي يتحقق في المجاز والحقيقة ومعناه واحد قال تعالى ( واذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما اتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به ايمانكم ان كنتم مؤمنين ) البقرة: ٩٣، فهذه الألفاظ المستخدمة في الآية الكريمة، كلها حقيقية إلا أن معناها مجازي، وبهذا ينتقل اللفظ من المعنى الحقيقي إلى المجازي.
وعلى هذا السبيل نجد أن اللفظ في اللُّغة العربية، قد امتلك معنى واحداً خاصاً به، لا يتبدل معناه ولا يتغير ولا ينقلب. إلا أنه ينتقل بين عالمين الحقيقي والمجازي. والمعنى المجازي هو يستمد معناه من الحقيقي ويضعها في ميزان المجاز.
الفاظ المعاني :
هي الألفاظ التي تحمل المعاني الوهمية التي تتقلب معانيها من سياق لأخر ولا يستقر معناها بالبته، لأنها ألفاظ مضطربة في السياق حتى إذا رجئت إلى قراءة ثانية للسياق أعطتك معنى ثاني، فلا تغرك بتقلبها على إنها المراد بل على العكس هي وضعت في السياق لجلب الأنتباه لكثرة تراقصها وزهوها في ذلك المسرح العظيم، يستخدمها الشاعر أو الناثر ليوهم المتلقي بزهو ألفاظه ويشد إنتباه الناقد بكثرة معاني البيت، بل يجعله يزهو بزهوه ويتمعن بقراءات كثيرة حتى يظهر ما خفي من اللفظ، وهذه البلاغة الراقية للمعاني لا يصلها إنسان ليس له ثقافة ولا لشاعر لم تكن له خبرة كافية في المعجم أو القراءة المتوالية للثقافات المتنوعة ، بل هنا يظهر الشاعر مهارته وثقافته الحقيقية وكذلك هو الناثر البارع الذي يخفي مقصوده خلف الألفاظ المستخدمة ويجعل مقصوده يتراقص خلف ألفاظ المعاني ، ومن ألفاظ المعاني ( نظر، المتعة، شهد، طلب، زينة، قتل ،… ) والقائمة تطول وكل هذه المعاني متواجدة في باقي اللغات على إنها ألفاظ يحمل معنى واحد منها ، قال الجاحظ ( والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي ) إلا لغتنا العظيمة لها ألفاظ وليس لها معاني متحركة، ولها ألفاظ معاني وهي تحمل عدة معاني في لفظ واحد، وهي ما كانت في باقي اللغات ألفاظ ، وهنا يمكن تصور عظمة لغتنا الجليلة عن باقي اللغات فما بالك إذا عرضنا كلماتها على باقي اللغات لحتجنا كتب بأجزاءها لأحاطة معناها في الكلمة الواحدة واستعرض إليك على سبيل المثال ( اليوم الأخرة ، الله أحد ، الشكر لله ، مالك يوم الدين ، إياك نعبد ) فهل يستطيع كتاب الأحاطة بمعنى كلمة مما استعرضناه هنا فما بالك لو استعرضت معنى ( الحمدلله ) لحتجت في اللغة العربية لعدة مجلدات حتى ابتغي بذلك منتهى معناها؛ وقد يوهم الباحث الإشتراك في المعاني فلا يمكن إن يشترك لفظ بمعنى لفظ أخر ، وإلا خسرنا اللفظ والمعنى من لغتنا الجليلة .
مقتطفات من كتابي ( بلاغة الشعر ) فليدرسها شعراءنا الأفاضل قد تنفعه في قصيدة ما مما يقدمه للناس ولتأريخ .
الباحث محمد عبدالكريم الدليمي
Discussion about this post