وظيفة بالخارج.. أمنية كل شابٍّ.. ومعي ابتسم الحظ مرّتين.. في مثل هذا اليوم التاسع عشر من يوليو من سنة 1992 عبرتُ جبال الأطلس إلى الجزائر ثم منها الى أوروبا باريس عاصمة الأنوار .. هجرت البلاد لاجئا .. ،، حينها كان مازال يعيش حاكمنا الأسبق، هو وشرطته ونظرياته العابسة.. كان الفرح ضئيلا بالبلد إلى أبعد الحدود.. ولأكون صادقا: فقط بعض الأطفال والأشجار لم يكونوا يعرفون الحزن.. فشجرة اللوز في شارعنا عند الربيع تزهر بلا اكتراث وتنفجر ضحكاتها الجذلى. وصغار الحي بودّهم أن يكونوا فرحين، وأن يتحدثوا مع جنوده، أن يجرّبوا مسك أسلحتهم .. تركتهم.. وجئت من أقصى المدينة هاربا.. تأخذك مدينة باريس، أخذ نسمة رطبة وباردة: قبلات الثلج تعترضك بالشوارع الفارغة، لتسد المجاري ومياه البالوعات السوداء.
وليست تنسيك أبدا ذلك الأمل الضئيل ان تشتغل ولو بالأجر الزهيد.. المهم، كل يوم أُمَنِّي النفس بعمل أسدُّ به وجعي وغربتي .. … قد فُتُّكُمْ بالقول.. مدينة الضياء ملآنة بالمومسات والغجريات يوقدن في المنتزهات نار السوء. ولا يحفلن بالأسمر ذي الشعر الأشيب.. يترقبن حظا مع موسر، وفحلا من نعيم.. ينصتن لعمال المرافئ يتكلمون بسرعة في الحانة… وطويلا ينتظرن ولا يخرج أحد.. المطر ينهمر ، و الحدائق تومض و تشتعل، لون أخضر يتلألأ من أشجار الحور و الصفصاف و أنا كفرخ العصافير الصغيرة الهاربة بين عيدان القصب على ضفاف نهرها الكبير، أشتم روائحها وأمني النفس بعطر التبن بكوخ بيتنا وبندى التراب الرطب يلفحني حين ساعة اليأس.. ا. *** سيدة في مقتبل العمر تمر كسحابة عابرة، تاركة عطرها وطيبها كعنب البراري فوق رائحة البحر المتوسط.. خفيفة، أنيقة لم أكنْ لأتبينها .. تضيئها البرَك اللامعة، ترمقني بعين صغيرة كسحلية، تتبختر كنغمات هارمونيكا، ملتصقة بشفة سوداء… ها أنا أشاهدها تسير أليَّ وتشير لسائقها.. يناديني أهرع اليه .. حينها كان الحظ تناساني لوهلة منشغلا بخلط الأسرار .. ركبت .. وعرفت الطريق للعمل.. ا. ***
سارت بنا السيارة ردهًا من زمن.. باللحظة التي دخلت فيها إلى غرفة الخدم بدأوا بالصياح وانفجروا بالضحك، الرجل الذي اصطحبني أخبرهم بسؤالي له : هل يسيئ الخدم لبعضهم البعض ….؟ ظلوا يلطمونني: واحد يقترب ويمرر أصابعه بين شعري حتى اذا ما استأنست يصفعني.. والآخر ينادي ( أحمد العربي) ثم يضربني على ظهري.. تضاحكوا حين ذهبت لاستخدام المرحاض العمومي، يناوشونني .. لمحتهم يطلون عليَّ من السقف حين كنت أقضي حاجاتي.. كل شيء يثير سخريتهم وجهي، أنفي، أسناني، نظارتي وحتى هندام السائق لم يسلم منهم .. دفعت الباب المؤدي الى موقف السيارات سمعتهم يقولون: – واوو يبدو مثل قرد في زي السوَّاق.. طفقت أمسح بلور السيارة بخرقة مبللة ناعمة، مستويا مرفوع القامة حتى لا أبدو كالشامبانزي .
اشعلت عودا من البخور اطرد البعوض الذي تسلل للداخل وسوء الطالع ، مسحت المقاعد وجلودها المخملية، مررت الخرقة على العدادات، نفضت قطع السجاد الخاصة بالأرجل من الغبار، وأعدتها لمكانها.. فحصت علبة المناديل الورقية.. وحين جلست امام المقود لمحتُ قردًا من القطن الناعم يبرز لسانه الأحمر معلقا بسلسلة في مرآة الرؤية الأمامية .. ما إن لمسته حتى صاح ( بونسوار / صباح الخير)، جذبته ..يا لهولي..انقطع، .. فككته من مسماره، كفرخ الحمام أضحى بيدي .. عندما فتحت لزوجته السيارة وركبا، قال: – إلى السوبر ماركت ، لقد ذهبنا بالأمس الى هناك أتمنى ان تتذكر المكان وأن لا تضل الطريق مرة ثانية.
تمتمت : – لن أخيب ظنك يا سيدي..! ساعة الذروة تحبل بالسيارات والدراجات، والتاكسي، واشارات المرور كما لو كان رجال المدينة ونساؤها قد خرجوا كلهم للتسوق.. الهواء بالداخل عندنا مكيف نظيف بارد لطيف، وعربة الأغنياء بنوافذها المعتمة كالبيض الأسود بين الحين والآخر تفقس وتخرج منها يد السيدة مكسوة بالأساور الذهبية البراقة تمدها خارج النافذة وتقذف بالمناديل الورقية المستعملة ثم أتولَّى رفع زجاج النافذة وتلتحم البيضة السوداء من جديد.. لم تزل دقائق لنصل .. سألتني السيدة عن القرد المعلق بالمرآة الأمامية ..وقبل ان تجيب ارتعاشتي وغصتي بالحلق أسرع يقاطعها سيدي .. – نركن العربة هنا حبيبتي.. ولن نتأخر.. قاطَعَتْه السيدة: أعطني وقتي .. حريَّتي .. ونزلا ولفَّهما الزحام .
أحسست بحاجة اكيدة أن أتبول..كنت مذعورا أن أخرج من السيارة، طال انتظاري.. فتحت الباب وابتعدت قليلا ..ألقيت نظرة على المكان .. رفعت ساقا كالكلب .. ثم أخرى بوجه الحائط..عدت الى السيارة كأن لم أقم بفعل أخرق يستدعي القبض عليَّ..رأيتهما قادمين يتطاير الشرر من عيونهما .. يا لفعلتي الحمقاء.. بادرتني السيدة .. – إلى المنزل.. وتابعَتْ .. لن تخرج معي مرة قط .. ظننتها ستطردني التفتت اليهما ..كانت تؤنب زوجها.. ومرَّ كل شيء بسلام صامتين ..حتى وصلنا قصرهما .. نطَّ سيدي كالقط نازلا من السيارة قبل أن أشد المكبح.. واستوى يقول لزوجته الغاضبة : خمسمائة اورو عشاء كلبتك! أليس كذلك يا…- متوجها لي بالخطاب- .. تحسَّس جيوبه واقترب مني صائحا..وقال: – لقد فــــقدْتُ ورقة من فئة عشر أوروات .
سقطت بالسيارة .. وفرقع بين عيوني أصابعه.. – انزل ، وابحث عنها بين الكراسي وأرضية العربة.. جثوت، أتشمم السجادات الخاصة بالأرجل أبحث عن ماله.. – ماذا تعني ليست هناك.. لا توهمني بفقدانها ..أتسرقني بأيامك الأولى؟ بقي سر اختفاء الورقة النقدية عني غامضا الى اليوم .. أخرجت ورقة الاورو من جيبي وأسقطتها بالسيارة ودرت من الجانب الآخر التقطتها ثانية صائحا : – ها هي يا سيدي..العفو أخذت وقتا طويلا لأجدها .. وحين نهضت كي أسلمه نقوده.. ضحك القرد وردّد: باي… باي… ذلك القرد الذي سقط لمَّا انقطع من مرآتي الأمامية خيط السرد.
Discussion about this post