بقلم دكتور … عاطف معتمد
هل الصحراء تغدر ؟!
ضربت مصر أمس عاصفة ترابية كادت تعمي العيون وتسد الأنوف. ذكرتني عاصفة أمس بما عانيته في رحلتي إلى شرق العوينات قبل أربعة أشهر في الصحراء الغربية.
كانت العاصفة تهب علينا من جهة أحد بحور الرمال المسمى “سهل سليمة” في موجات متتالية لا نرى معها شيئا ولا نعرف في أي طريق نسير وسط سحب صفراء تحمل غبارا وترابا ورملا وحصى.
حاولت أن استلهم عاصفة أمس في كتابة خاطرة أتشاركها معكم بإضافة بعد إنساني لتلك الظاهرة الطبيعية. ولا بأس في ذلك فالجغرافيا الإنسانية عادة ما تستلهم من الطبيعة معان ودلالات.
فشلت في كتابة شيء له معنى، لكني تذكرت أنني نشرت مرتين أو ثلاثة مشهدا عن هذا المجاز البلاغي بين الصحراء والحياة الإنسانية حين قدمت عرضا لجانب من رواية بهاء طاهر “واحة الغروب”.
لقد قرأ الأصدقاء القدامى هذه الفكرة من قبل، ولعلها مسلية للأصدقاء الجدد.
وفيما يلي نص المقال القديم
** تعال أحدثك أنا ..كيف يكون الغدر ! **
بشكل تدريجي يعرفنا بهاء طاهر على “محمود”، الضابط المصري في عهد الاحتلال الإنجليزي، محمود هو محور الزمان والمكان في بانوراما الوقائع المصرية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
عقابا لتضامنه مع أحمد عرابي، صدر أمر بنفي محمود من القاهرة ليعمل ضابطا على سيوة. يبدو الأمر وكأنه ترقية لكن الجميع كان يعرف أن الترقي في هذه الواحة المتمردة البعيدة في عمق الصحراء ليس إلا عقابا. تصر زوجة محمود الأيرلندية التي عاشت في القاهرة زمن الاحتلال أن ترافق زوجها شغفا ومغامرة إلى هذه الصحراء التي قرأت عنها كثيرا في كتب الرحالة والمؤرخين.
ينضم محمود وزوجته إلى قافلة كرداسة المتجهة إلى سيوة، كانت كرداسة الواقعة قرب أهرامات الجيزة هي بداية الطريق إلى الصحراء الغربية، لم تكن كرداسة نهاية القرن التاسع عشر مستودعا مختنقا بالبشر كما هي اليوم.
الطريق من كرداسة إلى سيوة يستغرق أكثر من 12 يوما بقافلة من الجمال في صحراء ابتعلت جيوشا من قبل. محمود وزوجته في وسط القافلة تحاصرهما الذكريات ويتابعان صفاء السماء وتتوالى أمامهما مشاهد متكررة من جبال ووديان ووهاد.
وبين الهدوء الممتع تكشف الصحراء فجأة عن عاصفة مراوغة كالأفعى ضربت رمالها القافلة وأطاحت الإبل والبشر ، تبعثرت حمولة القافلة في الرمال وتطاير المتاع، أمطرت الرياح أفواه وأعين الجميع بوابل من الرمال والحصى والحجارة، أصيبت الإبل التي فرت شاردة وانبطح الجميع أرضا، وفي لحظات الخوف المميت تشبثت كاثرين بزوجها محمود تريد أن يستقبلا الموت معا، لكن الموت لم يأتِ.
وكما بدأت العاصفة فجأة هدأ كل شيء فجأة، وأقبل دليل القافلة يعتذر للضابط محمود عن “غدر الصحراء”.
تصيب الكلمة محمود بخرس مؤقت، تنتزعه كلمة “الغدر” من الصحراء وتلقي به إلى الإسكندرية، يستعيد “الولس” الذي كسر عرابي و “الولس الأكبر” بعد أن كسروه. يسترجع محمود جيش عرابي وهو يقاوم الإنجليز ويتعرض لما هو أكبر من الهزيمة، الهزيمة يمكن تحملها أما الغدر فأكبر وأشد إيلاما.
وسط الصحراء يستحضر محمود الأعيان والوجهاء الذين خرجوا لتحية عرابي وقت خروجه وجيشه لمحاربة الإنجليز وهم يهتفون له بالنصر ويرفعون اسمه فوق أمجاد السماء، ثم يعودون هم أنفسهم بعد هزيمة عرابي للخروج مرحبين بالمحتل الإنجليزي وتمجيد ما صنعه من أجل حماية مصر من عرابي وأمثاله.
يريد محمود أن يجيب دليل القافلة عن “غدر” الصحراء لكنه لا يستطيع، تحاصره ذكريات الجنود الذين قتلهم الإنجليز غدرا وهم يحاربون من خلف الطوابي في الإسكندرية ولا يغادرون موقعهم حتى تنسف مدافع سفن الإنجليز الطوابي على رؤوسهم ولا يهتم بهم أحد.
“هذه مجزرة وليست حربا”..يحاول محمود العودة من ذكريات الإسكندرية والتل الكبير إلى الصحراء ليرد على دليل القافلة الذي يعتذر عن “غدر الصحراء” فتحاصره صورة يوسف خنفس الضابط المصري الذي خان عرابي وانضم إلى الإنجليز وقادهم إلى الفتك بجيش بلاده في التل الكبير.
يسأل محمود نفسه: لماذا خان خنفس بلاده؟ كيف كان يفكر وهو يرى مدافع الإنجليز تحصد إخوته ورفاق سلاحه الذين كان يأكل معهم وينام معهم ويضحك معهم؟ هل وقعت عيناه على زميله الضابط محمد عبيد وهو رابض على مدفعه وسط الفوضى والهزيمة يطلق النار على الإنجليز حتى صهرته حرارة مدفعه؟ كم أحبه الناس ولم يصدقوا أنه مات، يقولون إنه غاب فقط، يسمونه الشيخ عبيد ويقولون إنه شوهد في الشام مرة وفي الصعيد مرة وينتظرون رجعته ليواصل الحرب ضد الإنجليز، يظل عبيد حلما أما يوسف خنفس فهو الحقيقة الباقية، لماذا يرحل عبيد في عنفوان شبابه ويعيش خنفس دهرا كأنه لن يموت أبدا؟ لماذا خان؟ لماذا نخون؟
يسخر محمود من دليل الصحراء الذي يقول إن الصحراء غدرتنا لمجرد أن عاصفة أتت في غير أوانها!
يخاطب محمود نفسه بدلا من أن يخاطب الدليل قائلا:
” تعالَ أحدثك أنا كيف يكون الغدر!”.
Discussion about this post