بعد أن عزمت نورا على تقديم الإعتذار لما بدر منها في حق الكاتب والروائي الشهير ترجلت وئيدة الخطى نحو البحر ساعة الأصيل وكأنها تستعد لاجتياز امتحان صعب لكن على عكس ماتوقعت فلم تجده جالسا على كرسيه في نفس مكانه فصدمت وتفكرت بأنه ربما يكون قد أنهى أجازته وعاد لاستئناف أعماله أو ربما كذلك يكون متحاشيا النزول إلى الشاطئ حتى لا يتقابل معها ثانية بعد ما بدر منها من سخافة قول ….
وبذلك أيقنت بأنها لن تستطيع تصحيح صورتها في ذهنه إلى الأبد فتضايقت جراء ذلك الشعور….
وشعرت بتنغيص عميق أصابها وغير حالتها المزاجية بعد أن كانت تقضي أجازة سعيدة وهى تلك الفتاة مرهفة الشعور والتي لم تتخيل يوما أن تكون سببا في إيذاء مشاعر الغير ……
وبعد أن كانت ترفل في لجة المرح والسرور
تسبب لها هذا الموقف في تعكير صفو بالها و تكدير بلبالها …….
ولم لا تنشأ على هذا القدر العالي من حسن التربية وصلاح الأخلاق وهى الابنة الوحيدة لأبوين صالحين قد ربياها على مكارم السلوك وكذلك في مستوى رغد من المعيشة ولم يبخلا بشيء لإسعادها …
لكن أباها كانت قد اعتلت صحته فى الآونة الأخيرة من ضغوط العمل فنصحه الطبيب بضرورة تغيير جو وبحاجته الماسة لاستنشاق نسيم البحر العليل حتى يسترد معه صحته فنزلوا لقضاء شهور الصيف كاملة في تلك الفيلا التي يملكونها على هذا الشاطئ الساحر لمدينة الاسكندرية وهم في الأصل من قاطني حي الزمالك في القاهرة ….
وبعد أن قضت تلك اللحظات التي غيرت مزاجها قررت
آن تتمشى قليلا على اللسان المتواجد في عرض البحر حيث توجد في آخر الممشى صخرة كبيرة مستوية فكان ملاذها في الجلوس عليها حيث تداعبها الأمواج ملقية برذاذها المنعش عليها فعلها بذلك تتناسى قليلا ما سبب لها هذا الكدر…..
وبالفعل واصلت السير حتي تمكنت من الوصول لأعمق نقطة فى قلب البحر وأخيرا وصلت إلى المكان المحبب لديها حيث تشعر هناك أنها على متن سفينة تمخر عباب البحر فتستمتع بالأمواج الهادرة تحيطها من كل جانب وكأنها تهدهدها فوق أعنتها ….
لتذهل من هول المفاجأة غير المتوقعة بتاتا للمرة الثانية ألا وهى وجود كاتبنا جالسا في تلك البقعة البعيدة!!!!
لتلتقط أنفاسها سريعا وتستعد للمواجهة فأرادت حفظا لماء وجهها أن تقول ممازحة عندما دنت منه :
لي أن اطمئن الآن بأن ميتشو لو جاء إلى هنا وحده سوف لا يشعر بذعر لأنه استأنسك من يوم أن أنقذته …
فتفاجأ بوجودها وتلعثم قليلا إذ كان غارقا فى تأملاته الأدبية العميقة فرد قائلا :
يبدو أن ميتشو وصديقته يفضلان هذا المكان السري مثلي تماما …..
لترد في سرعة
نعم ، ولعل أيضا هذا المكان يكون شاهدا لاعتذاري لك عما ابتدر مني من تعليق سخيف …
فاحمر وجهها وأطرقت خجلا بعد قولها تلك الكلمات
لكنه بادرها بقوله :
عفوا ، أى اعتذار هذا الذي تدينين به الى ّ ؟!!
أليس من الأولى أن أقدمه لك ِ أنا ؟
بل بالحري لكل القراء الذين لم أقدم لهم سوى النكد والاكتئاب ؟!
ورب ّ كان كلامك هذا دافعا لي كي استدرك الخطأ وأطور من اسلوب كتابتي بما يتلاءم مع رغبات القراء
فأنا هو الذي يدين لك بالاعتذار والشكر في آن واحد…
فوقعت هذه الكلمات الرقيقة على مسامعها كوقع انسكاب الماء لاطفاء اللهب وتأثرت بذوقه وشديد لباقته فبادرته بقولها :
لكن في الواقع يقاس حذق الكاتب الحقيقي ومهارته بقدرته على انتزاع الدمعة من محاجر القراء فذلك أعسر بكثير من رسم البسمة على ثغورهم …
أخذ يسمعها وهو يعتريه الإعجاب بمنطقها وقوة حجتها بالرغم من صغر سنها إلا أنه تبدى من خلال حديثها أنها مضطلعة على الكثير من خبرة الحياة …
فكان ذلك من دواعي تعجبه وإعجابه الدفين بها كذلك
لكنه أيقن بأن من يفطر نفسه منذ الصغر على الثقافة بغية الارتقاء للوصول إلى العلا يكون قد صقل روحه وأرهفها بعميق الكلم فيتبدى ذلك في دقة إسلوبه وقوة منطقه
فرد معلقا :
يبدو أننى وجدت شريكا أدبيا يحسن تذوق اللفظ ويترجم لغة الحروف الصامتة التي تشكل الإحساس …
لترد بقولها كي تضفي على الحديث بعضا من اللطف :
ولا تنس كذلك اشتراك أسامينا في حرف النون
ليرد ممازحا :
كفاك ذكرا للنون ألا يظهر لنا النون العظيم فيبتلعنا مثلما ابتلع سيدنا يونس قديما …
لترد عليه وتقول وقد علت الضحكة ثغرها :
وحتى لو …
سنجلس بداخله هادئين وبمجرد أن نقص عليه بعض الروايات الحزينة سوف يكتئب كعادة القراء فيقذف بنا على شاطئ البحر ليتخلص منا سريعا …..
وهنا اعترته نوبة ضحك هستيري مما قالته
فلم يصدق مدى ذكائها وألمعيتها في التقاط الكلمات وتحويلها إلى مزحة لطيفة لكنها رفيعة المستوى الأدبي والتي تنم عن قريحة وضاءة مستنيرة بحق…
وكم كان محتاجا لهذه الضحكة والتي صدرت من صميم القلب وكأنها مارد قد ضاق ذرعا من قمقمه المحبوس بداخله وأخيرا وجد الفرصة للتحرر منه ..
وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله فآثرت الانصراف حتى لا تثير قلق والديها عليها لكنه استدركها قبل رحيلها بالسؤال :
هل لنا لقاء جديد في الغد أم ستتركينني الآن كي يلتهمني النون وحدي ؟!!
لتبتسم ابتسامة عذبة خالجها بعض الحياء فقالت :
لنتركها للظروف فربما نلتقى كالعادة على غير ميعاد….
ليتأكد هذه المرة من ذكائها الشديد ومراوغتها الفطنة في القول ففهم بذلك أنها لم ترد أن تعرب له صراحة عن رغبتها في مقابلته ثانية لكنها تعني وقت الأصيل كالعادة والذي أصبح من يومها هو وقت اللقاء……
Discussion about this post