يونس القاضي، شاعر نسيناه.
الدكتور ماهر جبر
) أنا أعيش فى ضياع، أريد أن تمر أيامى بسرعة، أعيش الآن تائهاً، صرفت كل ما أملك على الأدوية والعلاج، الخوف من الأيام يطاردنى، إن آلامي من الناس فاقت كل ما تجمع فى جسدي من آلام).
بهذه الكلمات البائسة المملوءة باليأس والضياع، كانت النهاية المأساوية لشاعر زجال ومؤلف كبير، كتب نشيد( بلادي بلادي، لكي حبي وفؤادي)، والغريب أن أي نشيد أو أغنية تُغنى لها ثلاثة أضلاع، كاتب، ملحن، مُغني، ومن المفترض أن أهم هؤلاء الثلاثة، وباني هذا الكيان وواضع أساسه ولبنته الأولى هو الكاتب، لأنه من قامت على أكتافه، وبزغت في ذهنه الفكرة من بدايتها، ثم يأتي بعد ذلك دور الطرفين الآخرين، إلا أنه لا يحظى بشهرتهم وترديد الناس لأسمائهم، ولا عجب فلله حكمة فيما يتعارف عليه الناس ويتفقون، فمن هو هذا الشاعر، ولماذا تم تجهيله بهذه الطريقة؟.
إنه الشيخ محمد يونس القاضي، المولود في قرية النخيلة بمحافظة أسيوط في عام ١٨٨٨ م، والمتوفي بالقاهرة عام ١٩٦٩م، بعد معاناة طويلة مع المرض، ومعاناة أكبر من تجاهل الناس، بل أقرب المقربين له، واللذين كان له فضل كبير عليهم.
تعود البداية الحقيقية للأزهري يونس القاضي عندما ذهب من قريته إلى القاهرة، وكتب مقالاً أُعجب به باعث الحركة الوطنية الزعيم مصطفى كامل، ومنذ ذلك الحين أصبح من مهام يونس القاضي أن يقوم بتبسيط خطابات مصطفى كامل المكتوبة بالفصحى، ليفهمها عامة الناس وبسطائهم، ثم ذاع صيته بعد ذلك وحاولت كل الصحف والمجلات الصادرة في هذا الوقت استمالته، لكنه كان يكتب في جريدة المؤيد التي أسسها الشيخ علي يوسف، وذلك لما عُرف عن الشيخ يونس القاضي، من خفة ظله وسرعة بديهته، وجزالة أسلوبه، وطلاقة لسانه فنافس في ذلك ظرفاء عصره أمثال، الشيخ عبد العزيز البشري، حافظ ابراهيم، عبد الحميد الديب، محمد أمام العبد، وغيرهم، ومما يُذكر عنه في هذا المضمار، أنه كانت له أخت ففرق الخصام بينهما لأمر ما، وطالت هذه الخصومة فكتب الأغنية الشهيرة التي لحنها وغناها سيد درويش، وفيروز، وكثير من بعدهم، وهي ( زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرة)، فلما سمعتها أخته عرفت أنه يعنيها، فذهبت اليه، وتم الصلح بينهما، وكان مما يحسب له حسن إستخدامه للألفاظ وتطويعه لها، للتحايل على الأوامر الصادرة من المحتل الإنجليزي، المانعة والمهددة بالحبس والغرامة لكل من يذكر إسم الزعيم سعد زغلول في مقال أو مسرحية، أو أي عمل فني وذلك بعد نفيه وإندلاع المظاهرات المنددة بذلك في كل ربوع الوطن، فتحايل الشيخ على ذلك بأن استخدم الموروث الثقافي الشعبي في الزج بإسم سعد زغلول داخله، ضارباً بذلك عصفورين بحجر واحد، فقد ذكر إسم سعد رغم أنف المحتل، وفي نفس الوقت لا تستطيع سلطات الإحتلال مقاضاته، فكتب كثير من الأغاني التى لحنها وغناها سيد درويش مثل (يابلح زغلول يا حليوة يا بلح)، ثم كانت رائعته (ياعزيز عينى، وأنا بدي أروح بلدي، بلدي يا بلدي، والسلطة أخدت ولدي)، والتي كتبها بعد قيام سلطات الإحتلال بإجبار الفلاحين المصريين على العمل بالسخرة بعيداً عن وطنهم وأبنائهم، إلا أن أروع ما كتب وخلُد إلى الآن، وأشهر أعماله هو نشيد الوطنية الخالصة،النشيد الوطنى المصرى ( بلادى بلادى)، والذي تغنى به المصريون كافة عند استقبالهم للزعيم خالد الذكر سعد زغلول، عند عودته من المنفى هو وصحبه، ثم السماح لهم بالسفر لحضور مؤتمر الصلح المنعقد في باريس بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى.
غير أنه بالرغم من تحايل الشيخ القاضي على سلطات الاحتلال، فلم يتركوه بل تم اعتقاله أكثر من خمسة عشر مرة، وكانت كل هذه الإعتقالات بسبب مايكتبه من المسرحيات، التي ما أن يشاهدها الناس حتى تعُم المظاهرات شوارع مصر كلها مطالبة برحيل المستعمر، ومع ذلك
لم يتوقف يوماً عن الكتابة، فكتب لكل مشاهير مصر من مطربين ومطربات ذلك الزمان، ثم كان المُنعطف الذي توقف بسببه عن الكتابة، ذلك حين تم تعيينه كأول رقيب على المصنفات الفنية، ومن المثير حقاً أنه كان يوقف نشر كثير من مقالاته بعد كتابتها، أو بعض أغانيه، مما جعله يتعرض لبعض اصدقاؤه ويمنع نشر اشعارهم وكتاباتهم ومنهم بيرم التونسى مثلاً، فابتعد عنه كثير منهم، ثم بدأت الأضواء تنحسر عنه وتصيبه الفاقة من كثرة الأمراض، لكن طامته الكبرى كما ذكرت كانت في تركه وحيداً في أيامه الأخيرة، وعدم سؤال أحد عنه، خاصة ممن كان له فضل كبير عليهم، مثل عبد الوهاب، أم كلثوم حيث كان أول من اكتشفها وذهب إليها في قريتها طماي الزهايرة طالباً من والدها الذهاب الى القاهرة حيث الشهرة والمجد، وذلك على خلاف في القول بين قائل أنه مكتشفها، وقائل أن مكتشفها هو الشيخ أبو العلا محمد، وكونه كان وفدياً يكتب في جريدة (مصر) لسان حزب الوفد، لذا أساءت ثورة يوليو معاملته، وظل مريضاً قعيداً سنوات طويلة حتى وافاه أجله في يونيو عام 1969م.
رحم الله الشيخ الأزهري الجليل محمد يونس القاضي، مؤلف نشيد بلادي بلادي الذي يردده أبناؤنا صباح كل يوم، ونردده في كل محافلنا الوطنية، دون أن يعرفوا أو يعرف أكثرنا شيئاً عمن كتب هذه الكلمات الوطنية الرائعة، وأخيراً فإن من حقه علينا التعريف به ولو على غلاف كتاب اللغة العربية للصفوف الأولى.
Discussion about this post