بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن تصبح الكتابة مكاناً له ليعيش فيه.
الكتابة من منا لم يسأل نفسه ذات يوم لم أكتب؟
ولم يستهويني هذا القلم ؟
لعل الكتابة تتدحرج إلى أقاصي المحن الوجودية بكشف التباسات الحياة وتقنّعات الموت الذي يُعَدّ ظلًّا للحياة في لوحة يكتمل فيها التمثل يشبّه كينونتنا بوجود الليل والنهار وأنها تكمن فقط في ذلك الشفق الغامض الوهمي والهارب بين ذكرى النهار وتوق الظلام نهاية الشمس واقتراب الشمس من النهاية وإن اكتشاف متعة اللانهائي في حلقة حلزونية تستبعد فكرة التحديد أو النهاية إذ أن السارد يحلم دومًا بالحصول على موطئ قدم شيء ثابت و تنتابه كلّ تلك الكرب عندما يعي سجنه في الحياة بؤس الـمنفى في أسوأ معنى مـمكن له هو ما يدعو السارد إلى ألَّا يتوقّف أبدًا في أن يكون هناك حيث لا يتحقّق وجوده في مكان محدَّد أو في أماكن أخرى نوع من الطوباوية في سعيه إلى التهرب من منفى العيش وقلق الحياة لذلك تستتبّ فكرة الـموت عند “بلانشو” « لتكتمل الصورة الناقصة للوجود وهذا شكل من أشكال الألم فكيف به أن ينتج فكرة ابداعية في هذه العلاقة الجدلية بين المشاعر والواقع ؟
يشكل “الألم” في نظرية الإبداع الأدبي القيمة الأشد توترا تجربة ورؤيا لدى المبدع وأداة إمتاع ومؤانسة لدى المتلقي. ويتضاعف تبئير “الألم” في الأعمال السردية والرواية خاصة من حيث إن لها طولا معلوما وزوايا نظر مختلفة بيد أن تجربة هذا “الألم” وإن كانت منطلقا لسرد الأحداث وتنامي مقومات المتون الروائية سرعان ما تزداد عمقا أو تخفت حسب كل تجربة إبداعية لاسيما عندما يتناغم الكون التخيلي للروائي مع الأحداث الواقعية وبالتالي تتعمق إشكالات التلقي وفواصله بين حدود إمتاع القارئ وممكنات عيش الألم.
ان القول أنه بالإمكان إمتاع القارئ بالحديث عن الألم نفسه تفاوت فيه الرؤى فالإبداع فضاء رحب يحتمل كل ما فيه من انزياح أو عدول حتى لو تعلق الأمر بالألم ذاته وعلى سبيل المثال لا الحصر فروايات فيكتور هوغو -وخاصة “البؤساء”- ما تزال تمتع القارئ رغم سوداويتها ومأساويتها.
كما ان الروائي الأميركي المشهور ستيفن كينغ ألف أروع روايات الرعب وأوقعت المتعة لدى القارئ بالرغم من أنها مؤلمة ومخيفة وكل من قرأ رواياته لن ينساها أبدا بل إنها تغري بإعادة قراءتها مرات ومرات ذلك أن روايته “صمت الحملان” خير دليل على إمتاع ملايين القراء وبعدهم ملايين المشاهدين عقب تحويلها إلى فيلم رعب
والشيء نفسه ينطبق على روايات دان براون مثل “شفرة دافنشي” و”الحصان الرقمي” و”ملائكة وشياطين”و”الرمز المفقود” واقعية و”الجحيم” وغيرها لذا فالكاتب الحذق هو الذي يحول الواقع المؤلم إلى أعمال روائية تخيلية تجعل فعل القراءة مدخلا ممتعا لخلق الدهشة والغرابة لدى المتلقي الا ان كل كاتب يؤمن بلحظة ولادة إنسان جديد شديدة الألم ومنتجة للحياة مع كل كتابة وهو أيضا جزء من مسار حياة لا ينفصل عنها لذا فالأهم لديه ليس الألم في حد ذاته، وإنما المستويات السردية وتنوع صيغ الحكاية فعندما تحضر مواضيع معينة في الرواية مثل سلب الحرية أو الموت أو العنف فإنما يتم استحضارها كقيمة جمالية وأنثولوجية خلال الكتابة.
إن ذات الروائي واعية ومدركة تتأثر وتؤثر في محيطها الاجتماعي وهو بالتالي حامل ومعبر عن مشاعره أو مشاعر المجتمع الذي يعيش داخله سواء أكانت مشاعر الحب أو الألم أم اللذة أو الوجع أو غيرها من المشاعر الحاملة لهموم الفضاء المعبر عنه.
سأقول ولأول مرة سأطرح نظرتي بكل تجرد وواقعية وتصريح إن الرواية ليست هذيانا كما قد يتوهم البعض فأصالة الروائي أنه صاحب صنعة بديعة يوجه عبر آليات تواصلية معلومة رسالته إلى المتلقي قصد تطهيره والتأثير عليه بصفته كاتبا مسؤولا وواعيا بما يكتب في ظرف معين هو زمن الكتابة نحو قارئ واع ومسؤول في ظرف معين هو زمن القراءة وتفاعل هذه الأزمنة داخل الرواية يجعل منها خطابا ملتزما بمسؤولية ممكنات فعل الكتابة.
Discussion about this post