ميَّادة مهنَّا سليمان
(١)الصَّومُ بالتَّوبيخِ …!
عرفتُ معنى الصَّيامِ للمرَّة الأولى، حينَ وضعَت أمِّي -رحمها الله- طعامَ الفطور، ولمْ أرَ سوى ثلاثةِ كؤوسِ شايٍ، فسألتها:
أنتِ وبابا ألنْ تُفطرا معَنا؟
قالتْ: كُلوا أنتُم، نحنُ صائمان، اليومَ أوَّلُ يومٍ في شهرِ رمضانَ.
وشرحَ لنا أبي مفهومَ الصِّيام، ولفتَ نظري تأكيدُه على قلَّةِ الكلامِ في أثناءِ صيامِ المرءِ، فلا يجوزُ أنْ يتكلَّمَ في أشياءَ بلا فائدةٍ، وليسَ فقط الكلامُ بسوءٍ عن الآخرين، أو شتمِهم، وقولِ الكلامِ البذيءِ.
عندما صِمتُ للمرَّةِ الأولى كنتُ في الصَّفِّ الرَّابعِ، وكنتُ حينَ أجوعُ كثيرًا أفطر، ولمْ أكنْ ألقى توبيخًا مِن أهلي، وأذكر أنَّني أفطرتُ حوالى العشرةِ أيَّامٍ متفرِّقةً.
بلْ بالعكسِ، كنتُ ألقى تشجيعًا جميلًا على الأيَّام الَّتي صمتُها، وهذهِ أصولُ التَّربيةِ السَّليمةِ، فتوبيخُ الطِّفلِ، والقسوةِ عليهِ، سيُنفِّرهُ مِن أداءِ العباداتِ، ولذلكَ كنتُ أرى بعضَ صديقاتي في المدرسةِ، حين يأتين إلى المدرسةِ يُفطرنَ، واعترفَت لي إحداهُنَّ أنَّ أباها يضربهم بالسَّوطِ، لذلك يدَّعونَ أمامَه أنَّهم صائمون، وحينَ يخرجُ يأكلون!
(٢) نحنُ لا نصومُ!
في أحدِ الأيَّامِ عندما كنتُ في الصَّفِّ العاشرِ، ابتدأتُ بصيامِ أسبوعٍ مِن غيرِ أنْ نكونَ في رمضانَ، وكانَ مِن عادتي ألَّا أتحدَّثَ أمامَ أحدٍ أنَّني صائمةٌ، وذاتَ يومٍ قدَّمت لي صديقتي الغالية جيهان قطعةَ بسكويت، فشكرتُها، واعتذرْتُ بأدبٍ، لكنَّها ألحَّت مرَّتين، وأنا أعتذرُ، فانزعجَت، ولذلك اضطررتُ للقولِ بأنِّي صائمةٌ، وكانت ردَّةُ فِعلها مفاجِئةً، بل صادمةً، فقدْ قالتْ لي بدهشةٍ كبيرةٍ جدًّا:
صائمةٌ، أنتُم تصومونَ؟!
لا أستطيعُ وصفَ شعوري، فقد سُئلتُ السُّؤالَ ذاتَهُ عندما كنتُ في المرحلةِ الابتدائيَّة، بلْ في الحقيقةِ وجَّهتْ إحداهُنَّ إليَّ -وتدعى سحَر- تهمةً سمِعتْها من أهلِها:
أنتُم لا تصومونَ، أمُّكِ غيرُ محجَّبةٍ!
ابتسمتُ لصديقتي جيهان، كما ابتسمتُ سابقًا لسحر، وقلت لها:
بلْ نصومُ، ونؤدِّي العباداتِ، لكنْ ليسَ من عاداتنِا إظهارُ عباداتِنا أمامَ أحدٍ، لأنَّها لله فقط.
وهناكَ- كما في كلِّ مجتمعٍ، وعندَ كلِّ طائفةٍ، مَن لا يصومُ، ولا يؤدِّي أيَّةَ عبادةٍ، ولكنِ الغريبُ أنَّ هؤلاءِ حينَ لا يؤدُّونَ واجباتِهم الدِّينيَّةَ، لا يُصبحونَ مُمثِّلينَ عن طائفتِهم كلِّها، في حينِ أنَّ مَن لا يفعلُ ذلكَ عندَنا، يُصبح ممثِّلاً عن طائفتِنا بأكملِها!
اقتنعتْ صديقتي جيهان، واعتذرَت منِّي، والأغربُ أنَّها حكت لأهلِها، فجاءتْ في اليومِ التَّالي تعتذرُ أكثرَ، وقبلتُ اعتذارَها لأنَّ رأيها، ورأيَ أهلِها لا يُقلِّلانِ من شأنِ عبادتي للهِ تعالى.
(٣) الصَّومُ للتَّنحيفِ!
كبرتُ، ومازلتُ على عادتي أصومُ أيَّامًا أخرى من غيرِ رمضان، ولا أخبرُ أحدًا بذلكَ إلّا إنِ اضطررتُ، ورغمَ أنَّ الكبارَ ينبغي أنْ يتمتَّعوا بالنُّضجِ، وفهمِ أصولِ الدِّين، إلَّا أنَّ هناكَ مَن لا يحترمُ قدسيَّةَ الصِّيامِ بمعناها الحقيقيِّ، فأنا أرى حالاتٍ تدعو للعجب:
صائمةٌ، وطوالَ النَّهارِ تتَّصلُ بفلانةٍ، وتحكي على تلكَ وغيرِها، وغيرِها، كي لا تشعرَ بأنَّ النّهارَ طويلٌ، أو تنامُ، وتستيقظُ قبيلَ موعدِ الإفطارِ كي لا تشعرَ بالجوع!
وأذكرُ أنَّ إحداهُنَّ كانت لديها حاجةٌ عند الله، ولم تكنْ تصومُ إلّا نادرًا، فأصبحتْ تصومُ، وتدعو اللهَ بقلبٍ موجوعٍ، وحين استجابَ لدعائها، جاءَ رمضانُ التَّالي، ولم تعدْ تصومُ!
هذا عدا عن النِّساء البديناتِ اللواتي يصمْنَ من أجلِ تنحيفِ أنفسِهنَّ، ويعترِفن بذلكَ:
(خلِّيني صوم يمكن أنحف!)
وكأنَّ اللهَ لا يعلمُ نيَّةَ المرءِ من الصَّيام، هل هو للعبادةِ، أم لمصلحةٍ دُنيويَّةٍ؟
والأكثر غرابةً في رمضان هنَّ النِّسوةُ اللواتي، يظهرنَ وكأنَّهنَّ لم يسمعنَ بحياتهنَّ أنَّ هناك شهرًا اسمهُ رمضان!
مكياجٌ مُقزِّزٌ، لباسٌ غيرُ محتشمٍ، ميوعةٌ، حركاتٌ سخيفةٌ، وابتذالٌ، وكلُّ ذلكَ إنْ دلَّ على شيءٍ، فإنَّما يدلُّ على أنَّهنَّ لم يتلقَّينَ تربيةً دينيَّةً، أو أخلاقيَّةً تُعلِّمهنَّ احترامَ هذا الشَّهرِ الفضيلِ، ولا شكَّ أنَّ أبناءهُنَّ سيرِثونَ هذا الانحدارَ الأخلاقيَّ الكبيرَ، فهنيئًا لهُنَّ!
ميَّادة مهنَّا سليمان
مساء ٢٠٢٣/٣/٢٥
Discussion about this post