الكينغ يكتب ….
(رُوح صَلُّوحَة المَذْبُوحَة)** -8-
منذ وعيت الدّنيا، وأنا أعرف عن روح صلّوحة المذبوحة كلّ شيء تقريبًا إلا سبب موتها مذبوحة؛ فلا أحد كان يجيبني عن هذا السؤال. بيتها، أو حفرتها، التي عند تلك الربوة حين تخرج من حدود الحومة إلى بطحة أرض العروسي، تبدأ مباشرة بعد حدود قطعة أرض الخلاء، التي كنا نخصصها للعب الكرة وتنظيم مقابلات ساخنة مع حومة أولاد زايد وحومة نهج صفاقس وجماعة المنشية، وحتى أولاد المنصورة، رغم أننّا كنّا نعتبرهم أقل شأنًا منا في الإجرام؛ كونهم مجرّد أبناء لموظفين ومدرسين مثقفين، وآباؤهم يقرؤون الصحف اليومية والكتب. وكنّا نحن؛ صناديد حومة علي باي، زوَّار سجون وحاملي حديد وشفرات حلاقة، وأبناء لأميين ومجرمين، رجالًا عتاة في السكر والعربدة والفقر، ولا يوجد بينهم مثقف أو موظف واحد يضع مؤخرته على كرسيّ ويأتمر بأوامر رؤسائه في العمل، وأقصى ما كان آباؤنا يبلغونه من الوظائف هي وظيفة زبّال تابع لبلديّة القيروان، أو حارس ليليّ مُرسّم وهي مهنة يتم توارثها كما الأراضي والبيوت والديون وفصيلة الدّم.
ولا أعتقد أنَّ صغيرًا أو كبيرًا سكن في حومة علي باي ولم تكن له واقعة مشهورة مع روح صلّوحة المذبوحة؛ فهي التي علّمت وجه رضا ولد السّبوعي بشفرة حلاقة، وهي التي تقلب حاويات الزبالة بعد منتصف الليل، وهي التي تمزق صور المترشحين للانتخابات، وهي التي قطعت عضو خميس ولد المرعوشة، وهي التي تخنق الماعز والخرفان التي تسوقها أقدارها وراء البطحة، وهي التي تشوشّ على البثّ حين يعرض التليفزيون أخبار المظاهرات في البلدان البعيدة، وهي التي تقطع الكهرباء والماء عن الحومة في رمضان، وهي التي تسرق الكراسي بعد نهاية صوان الأفراح والختان، وهي التي تملأ السماء بالغيوم وتسرق الفلفل المجفف من على السطوح وتوزّع الأرزاق بغير عدل وتنفِّر، دونما سبب، كلّ الخطّاب المعتبرين الراغبين في بناتنا، وهي التي تخنق الرضّع وتفسد طعم الحليب وتضع المسامير ونشارة الخشب والحصى في أرغفة الخبز، وهي التي تهشّم بلوّر شبابيك الحيّ القريب بيننا وبين المنصورة، وهي التي تنشل الملابس الداخلية لإخوتنا البنات، وتدفع بواحدة منهنَّ للانتحار كلّ سنة.
روح صلّوحة المذبوحة روح شريرة، هذا ما نعرفه، ونحن نتجنّبها، ونتجنّب اللعب- ليلًا – بعيدًا عن حدود حومة علي باي، والتي تمتد من بيت مهرية الديماسي شرقًا، وبيت سالمة المحروقة غربًا، وحائط مدرسة المنصورة يمينًا، وعشّة الجغموميّة عند أقصى اليسار. هذه حدودنا، ونحن نعرف حدودنا ولا نتجاوزها، ولا نرمي بأنفسنا للتهلكة، أو البوليس أو قبضة صلوحة المذبوحة التي لا ترحم ولا تغفر لمَن يتطاول عليها.
وكان يمكنك أن تسمع الحكايات الأكثر غرابة لصلوحة المذبوحة، خصوصًا من فَرج الزبراط، حتى إنَّ الجميع كان يدفع له بالسيجارة والسيجارتين ليحكي لنا عنها وعن تفاصيل مرعبة تجعلنا ننكمش ونحن نجاهد كي لا نتبول في سراويلنا. وقد لحقتُ به وهو كهل في الخمسين، وكان لا يصحو تقريبًا من السُكر؛ فقنينة وقود الكحول “السبيرتو” لا تفارقه أبدًا. ورغم أنَّ طعمها لا يُحتمل، حيث إنّها تُباع علنًا في الأصل؛ كونها تستعمل كوقود للإنارة، وسعرها زهيد جدًّا لا يتجاوز سعرُ اللتر منها سعرَ رغيف؛ فإنَّ كبد فَرج الزبراط تعوّد عليها. ويا كم راهنوا أنَّه لن ينهي العام، لكنه حضر جنازة جميع من راهن على موته الوشيك، وكان يتمتم على قبورهم سورة الفاتحة، وإن كنّا نشكّ أنه فعلًا يحفظها كاملة.
وفجأة، وقبل بداية صيف سنة 1977، بدأت مظاهر العزّ تظهر على فَرج الزبراط. في البداية، لاحظنا جميعًا أنّه بدأ يرتاد مقهى المنصورة، ويجلس إلى طاولة، وهو ينتعل حذاء وبذلة رياضيّة اشتراها من السّوق الأسبوعي. ثم بدأ الهمس حين شوهد وهو يتحدث إلى أغراب بعضهم من فتوّات حومة نهج صفاقس وحومة أولاد زايد. وتزامن ذلك مع اختناق ثلاثة خرفان في ثلاثة أسابيع من قطيع العمّ علي بوصبع، وانتفاخ بطن تيس الهادي الشيحاوي، الذي سارع بذبحه وهو يبكي؛ كونه كان يؤجره كفحل للتخصيب ووطء ماعز الأحياء القريبة، ويتكسّب به، فقد كان تيسًا ضخمًا أبيض بغرّة سوداء، ويصل طوله إلى أكثر من مترين ونصف حين ينتصب على قائمتيه الخلفيتين ليأكل من عقود الفلفل المجفف المعلٌّقة بمسامير على حيطان وأسطح البيوت الواطئة.
ولم يكتمل الشهر حتى بدأت الكلاب والقطط أيضًا تختفي من حومة علي باي، مع تأكيد العديد من النساء أنهن شاهدن، وهنَّ ينشرن الغسيل، أو ينزّلنه من السطوح، دخانًا يتصاعد ليلاً من آخر بطحة العروسي، قرب ربوة صلّوحة المذبوحة، وحلفت الجازية الماجريّة أنّها تشمّ رائحة شواء كلّ يوم سبت يعبق من الدّخان، وأكدت فطيمة السوداء وحوريّة الكافيّة ذلك.
في الشهر المنحوس نفسه الذي اختنقت فيه خرفان عمّك علي بوصبع الثلاثة، وتسمم تيس عمّك الهادي الشيحاوي، وجد فَرج الزبراط مذبوحًا من الوريد إلى الوريد قرب ربوة صلّوحة المذبوحة.
وجده عمي الهادي الشيحاوي نفسه.
كثيرون من الغرباء الوافدين حديثًا على حومة علي باي، من الذين لا يؤمنون بالأرواح، بقوا يهمسون بأنَّ حكاية صلّوحة المذبوحة من اختلاق فَرج الزبراط نفسه، وثمّة من كان يشير بمكر أنَّ هناك علاقة بين رائحة الشواء وأجداث الخرفان المختنقة، التي كانت ترمى في أرض العروسي للكلاب. وقد بلغت سمعي أكثر من مرّة إشارات مغرضة، تفهم منها أنَّ هناك شكوكًا بأنّ فَرج الزبراط كان يبيع لحم الخرفان الميتة والكلاب والقطط للسكارى في بطحة العروسي، وأنّها كانت تعجّ ليلاً بحلقات المدمنين والمجرمين، ولسنوات عديدة، وثمّة من كان يقول إنّ أحدهم ذبحه حين عرف أنّ ما يبيعه لهم ليس أرانب الحاجّة منوّبية التي كان يدعي بأنه يسرقها؛ بل هي شواء قطط وكلاب، وأنه كان يبيعهم لحوم الجيفة.
حكايات كثيرة، وحومة علي باي لا تحتاج للعثور على جثة مذبوحة لتختلق الحكايات؛ فنحن لم يهبنا الله ولم يميزنا عن بقيّة أحياء القيروان بغير ذلك. وصغيرنا، كما كبيرنا، حكَّاء، ويزيد في الحكاية حكايا.
لكنّ الغريب فعلًا أنّ روح صلوحة المذبوحة، التي لا يذكر أحدٌ قصة ذبحها، اختفت حقيقة من أرض علي باي منذ تلك السنة، وحتى كبرت وخرجت من القيروان، لا أذكر حادثة واحدة ظهرت فيها صلوّحة المذبوحة أو آذت واحدًا منَّا.
*****
***(كمال العيادي الكينغ)***
Discussion about this post