الأديبة سونيا عبد اللطيف تكتب
حين أكون بصدد العبور فوق جسر ما وأنا أتنزْه مترجّلة أجوب الأماكن.. أشعر بإنتشاء كبير.. إلى حدّ الشّهوة والرّغبة في الارتماء من أعلى قمته لألقيَ بجثّتي في أسفل الأسفل.. فأنا أرى الفضاء والطّريق.. ممتدّا وجميلا… يصل، بل يتجاوز الأفقَ الذي لا حدّ ولا حدود له إلاّ إذا أَطبَقتْ السّماء على الأرض بأجنحتها… فأنا أشتهي وأحبّ أن أتلذّذ وأسمع ارتطمامي بوجه البحر الأزرق، ذاك الذي يُغريني سحرُ لونه وبهاءُ منظره ورقّةُ همسِ موجه وهديره إنّ كلّ شيء فيه يغويني.. كلّما أنظر إليه .. أشعر بمغناطيس قويّ يجذبني ويشدّني إليه.. وما يجعلني أنتشي أكثر لمْا أتخيّل أنّني لا أتهشّم ولن أتهشّم عند ارتطامي.. لأنّي أنا التي سأهشّم مرآة البحر وأكسُرُ أنفه المسطْحَ ثمْ أخترق جسدَه… حتى أصل إلى جوفه وقلبه وكبده.. فتجزعَ كلُّ الأجسام العائمة في دهاليزه القريبة منّي حين تراني أنزل كالفأس بل كصاروخ يمزّق الفضاء والسموات لحظة انطلاقه.. أتصوّر أنّني أمخر لحمه وعظمه… ولا أتوقف إلاّ حيث تنتهي جاذبيّة الأرض وتفقد سلطتها عليّ.. إذ يخفُّ وزني… فأصير بلا وزن.. عندئذ إمّا يُعيدني التّيارُ إلى سطحه فأتحكّم في توازني وأطلق سلطتي على أعضائي وأطرافي كيْ تصبحَ الأمور بعصمتي وتحت جهاز تحكمي.. فأطفو كما يحلو لي فوق سطح الماء… وإمّا يجرُفني التّيّار حيث يريد و يُلقي بي في رحاه التي لا تتوقّف حركتُها ولا تهدأ، فتبتلعني ابتلاعا.. وترحيني رحيا.. وقد أشهق من هول الصّدمة فتمتلئ وتتعبّأ رئتايّ وتصبحا بالونتيْن كبيرتيْن منتفختيْن… فأطفو بهما شيئا فشيئا حتى أصعد وأصير كتلة فوق الماء… فتؤرجحَني الأمواج بين أحضانها وتهدهدني بلطف فأنامَ النّوم الهانئ الهادئ… النّوم الأخير .. وتتلقّفني اللّججُ بغبطة كبيرة… وقد تأخذني إلى ضفاف جزيرة مجهولة أو شاطئ مهجور.. وقد تقذف بي للصّخور بشدّة وفي غضب، حين يشتدّ بها التعب ويُنهكها السّفر.. فتفتّتني أنيابُها ومخالبُها إلى أشلاء عديدة، صغيرة وكبيرة.. أو قد يُصادف جثّتي المنتفخةَ قرشُ البحار فيتناثرَ من فمه الواسع ومن بين فكّيه المخيفيّن كمنشاريّن حادّيْن مُخيفيْن الرّذاذ ، وتقدح عيناه الجمرتان قدحا سريعا، وفي هجمة مباغتة واحدة، أصير حبّة منوّم في بطنه…. فيتعب من ثقلي وحمله لجثّتي وربّما تخزه أطرافي فأنا كالشّوك أنبتُ في قلوب الأعداء والحسّاد والطّغاة.. ، فينحو بي حيث الدّهاليز ليتّكئ قليلا وينال قسطا من الراحة قبل هضمي ورحيي.. فهرموناتي حامضة قليلا.. كويراتي مخدّرة قليلا… أنوثتي قاتلة قليلا.. لحمي نتنٌ قليلا… فأنا لم أستحمّ اليوم لأنّ الطبيب المباشر لصحتي والذي حقنني منذ يومين ضدّ الفيروس كوفيد 19 حذّرني من ملامسة الماء حفاظا على صحّتي وصحّة من يُصافحني فأنفاسي دخان خانق.. دخان قاتم.. وقد أنقل الكورونا إلى جسد حبيبي حينما يقبّل شفتيّ بلهفة المشتاق… المسكين حرمه الحجر والبروتوكول الصّحي من الحنان العاطفي والنّوم في الأحضان طيلة أشهر الكورونا الملعونة.. وخوفا من تعكّر الأمور… التّلقيح هو الضّمان الوحيد للنّجاة ولتجنّب خطورة العدوى …
كل هذه الهواجس تجول سريعة بخاطري عند كلّ وقفة تأمّل أو أثناء مروري عبر جسر ما…
بينما وقوفي هذه المرّة ليس الوقوف على الأطلال… فأنا لا أحبّ أن أحيى على الأوهام.. ولا أحبّ أسترجاع الذّكريات والتغبّن على الفائت وأكره تمجيد الماضي والنّوم عند خاصرته …
وقوفي هذه المرّة كان فوق جسر يربط بين يابستيْن، يمرّ من فوق طريق سيّارة هامّة وعظيمة على مستوى اتّجاهيْن، بكلّ واحدة ثلاث ممرّات للسّيارات.. والسّيارات فيها تمرّ كالبرق سريعة جدّا فلا إشارات ضوئيّة توقفها ولا إشارات مروريّة تنبّهها للتّخفيف من سرعتها…
إنّ هذا المنظر أيضا يشدّني وأراه فاتنا، ساحرا.. فأنا أحبّ العظمة والانتصارات العلميّة والتّكنولوجيّة في الحياة، وأنبهر بعظمة الجسور المعلّقة في الفضاء بين ماء وسماء والتي يبلغ طولها الكيلومترات…
أتنقّل ببصري في كلّ الجهات.. أنظر إلى الأسفل… فأشعر بالرّهبة… كما أشعر بالخفّة والنٍشوة والانتعاش.. فالنّسيم حرّ طليق يهبّ عليلا، يداعب شعري المرح فوق أكتافي… فلا شيء يحدّه أو يُعرقل هبوبه.. ولو ألقيتُ بجسمي هنالك سيكون سقوطي على الأرض كسقوط الصاعقة دون شكّ.. وسيكون ارتطامي على أسفلت الطّريق كالطّامة الكبرى، التي يُسمع صداها إلى حدود المطار الذي يبعد عن الجسر الذي أقف فوقه خمس كيلومترات فتفزع لإرتطامي المدوّي الطّائرات الرّابضة هنالك.. فتقلع قبل أوانها.. إذْ كان بعضها يتهيّأ لوضع بيضه وحضنه في جوفه حيث الدّفء والرّاحة قليلا بعد الرّكض واللّهاث… وبعض الطّائرات الأخرى كانت كالقطط تنفش شعرها تستحثّ جراءها للّحاق بها.. غير أنّي لا أريد أن يهشّم لي الاسفلت عظامي وفي المقابل هو لا يتأذّى… فإن وقعت ستسعد الأرض بسقطتي بدون شكّ.. فأنا سأزيّن وجهها العابس، اليابس وسأجعله ليّنا قليلا ولزجا قليلا.. سأقوم بوضع القليل من المكياج على خدوده… الأحمر والأبيض والأسود.. هي ألوان مناسبة.. وأشلاء من بدني ستُوزّع هدايا مختلفة هنا وهناك.. *خمسة، صفيحة، عين، قدم.. قرن غزال.. ضفيرة….*.
أو قد يكون ارتمائي يتزامن مع مرور سيّارة فأهشٍمها وتهشّمني.. نهشّم بعضنا البعض من فرحة اللّقاء والالتقاء وقد أخترق جسدها فأقوّس لها ظهرها أو أصيبها في مؤخٍرتها أو أشدّها من ناصيتها… وربما أيضا أسبّب في طمز عينيها فتفقد بريقه ولَعانها.. وبفعل الارتطام مع قوة الجذب مع كتلة الوزن يكون التّفاعل ودرجة الأضرار أكبر… وقد تحلّق وتطير في تلك الآونة روحي… تاركة جثّتي التي يتضاعف ثقلها ربما بلغ الطنّ.. تماما كبقايا الوحل المرنْخ بالماء …
وحين كنت مع نفسي أصوّر المشاهد وأمرّرها كما الفيلم… مرّ من أمام شاشتي عباس أبن فرناس… لم يتواصل معي، لم يلتفت، ولم يعرني اهتماماته… إلاِّ أنّي رأيته يسبقُني إلى الجسر، ودون كلام ودون سلام، فتح جناحيٰه من تحت إبطيْه وصعد الحاجز الحديدي للجسر أغمض عينيه.. خفق بهما قليلا في الفراغ.. جعل يقوّي ويضاعف الخفقان في الهواء.. كما تناهى إلى أذني صوت لهاثه الذي يتسارع كأنّه الكلب المسعور… ثم رأيته يرمي بكتلته في الجوّ مطلقا صرخة عالية مدوّية.. يبلغ صداها المدى البعيد.. وعبثا حرّك وحرّك جناحيه.. شاهدته ينحدر إلى الأسفل كنورس جائع في حالة اقتناص لفريسته..
عيْبك يا أبا فرناس لم تستشرني قبل أن تجرّب الطّيران.. عيْبك لم تجعل لجاذبية الأرض على الأجسام حسابا..
لم تتفطّن أو لم تدرس جيّدا أنّ كتلة الجسم يتغيّر وزنها مع سرعة السّقوط بحسب الوزن والمسافة التي تفصله عن سطح الأرض وقوّة الجذب…
ثم إن جناحيك قصيران جدا يا أبا فرناس…
ماذا كان يحدث لو تريّثت قليلا يا عباس… حتى تطول أجنحتك أو استعنت بي قد أعرتك أجنحتي… أو ربّما كنت لك وسيطا مع صقر أو نسر أو عقاب.. رحمك الله يا أبا فرناس… قد خسرت حياتك بسبب تسرّعك وحمقك.. وغرورك… عجّلت في نيل الشّهرة.. لتكون الأول في هذا الاكتشاف.. ان يطير الإنسان كما تطير الطّيور.. لكن لابأس ها هو اسمك قد حظي بالاهتمام وسجّله التاريخ أنك صاحب أوّل محاولة في الطيران ومن تجربتك استفاد الغرب… فطوّروا علومهم ووضعوا قوانين رياضيّة محكمة.. فكانت الطّائرة…
ولكن..! أنا… لن أكون ضحيّة مثلك ولن أقع في خطإ تجربتك… انظر إليّ.. أنا اليوم أمتلك جناحين طويلين… طويلين جدّا… جدّا… لن أسقط كما أنت سقطت، سألقي بجثّتي في الفضاء.. هي خفيفة وضئيلة الحجم… وبوصلتي تشير إلى السّماء… نعم.. أنا لا أسقط في الأسفل… أنا لمّا أسقط أسقط إمّا واقفة وإمّا في اتّجاه السّماء… ناحية الإسراء والمعراج.. انظر يا أبو فرناس… كم هما جناحيّ طويلان… سأقطع المسافات وأصل المطارات في ثوان.. سأحمل معي كلّ الطّائرات.. الرّاسية والرّابضة… الحبلى والعذراء… وسنرحل بعيدا بعيدا نحو المحال… بدون رجعة يا أبا فرناس.. فالسّفر الذي يكون دون وجهة ودون رجعة… هو سفر دون حسرة ودون دمعة ودون وداع.. ودون قُبلة… ودون مرار…
نعم جناحاي طويلان… كأجنحة ظلال الأشجار في الظلام…. لا تظلّل سماء، ولا تظلّل أنجما….
بقلم الأديبة سونيا عبد اللطيف
تونس 30 /05 /2021
Discussion about this post