قصة قصيرة بقلم … ربيع دهام
في حفلةِ زفافٍ بين أحضان الطبيعة الجميلة ، وأشجار الصنوبر الرائعة ، المندسة رائحتها في كل شيء إلا النفوس، رحتُ أتنقّل كالضائع بين الحاضرين.
بسرعةٍ أحييهم وأكمل طريقي. ولكن لا أحد يرد سلامي.
كلُّ متقوقع في كرسيه. كلٌّ يدير ظهره للآخر.
كلٌّ يحني رأسه إلى الأسفل ، كأنه يحدّق في شيءٍ ما فوق حضنه.
“مطرب” الحفلة يغنّي. يزعق. يقفز. يتمايل بتكشيرته مع النسيم ،
فيتطاير صوته في الظلام ، مبعثراً ذرّات الهواء الغافية والأفاعي والحيوانات المختبئة في جحرها بسلام.
وبين الوصلة والوصلة ، في فترات الإستراحة الكثيرة ، أشاهده
بطرف عيني وهو يقفز قفزته الأولمبية فوق رأس عازف الأورغ ، ثم ينزلق في إحدى الزوايا ، يلتحف الوحدة ، ويأخذ وضعية الحضور ذاتها :
كلُّ متقوقع في كرسيه. كلٌّ يدير ظهره للآخر.
كلٌّ يحني رأسه إلى الأسفل، يحدّق في شيءٍ ما فوق حضنه.
فجأة أرى شجرة صنوبر تنتفض. تهتز بغضب شديد. كأنها أصيبت بصفعة كهربائية.
وبعنفِ صفائح الأرض حين تتحرك ، تنتزع أقدامها من حذاء التراب . تكوّر أوراقها وأغصانها في أمتعة خشبية ، تحملهم وتهرول مسرعةً نحو إسفلت الطريق.
ألحق بها وأسألها :
” ما بك يا شجرة ترحلين؟”
تجيب : ” أنا؟ أنا التي أرحل؟ أما رأيت تلك الأصنام البشريّة؟
وتلك اللافتة الخدّاعة فوق رؤوسهم؟ “حفلة زفاف في أحضان الطبيعة” ، تقول اللافتة البلهاء. أحضان الطبيعة؟ عن أي طبيعةٍ يتحدثون ؟ عن أي زفاف ؟ عن أي حضن؟ أو فرح؟ أو عروس وعريسٍ ؟
كلهم جاؤوا إلى هنا. احتلوا سلامنا. افترشوا أرضنا. أزعجوا آذاننا. أقلقوا راحتنا. رموا أوساخهم قرب أقدامنا.
ولا! لم يكتفوا بذلك. بل أهانوا كرامتنا حين لم يلتفت أحد منهم إلينا،
ولو لدقيقة. لم يتغزل بنا أحد. لم ينظروا إلينا إلا من خلال عدسات آلهتهم الإلكترونية. يحبوننا فقط حين نكون سجناء شاشاتهم.
نحن مجرّد ديكورات خلفية لصورهم الشخصية.
أيعشق هؤلاء الطبيعة حقاً؟ ولماذا يعشقونها ؟ ومن أجل ماذا؟ و…”
قاطعتها : ” دعيكِ الآن من هؤلاء. إلى أين ترحلين؟”
أجابت : ” إلى بيتٍ من بيوتهم. أليس هذا أفضل؟ إن كانوا يريدون السهر هنا ، في بيتي ، في بيئتني ، فأنا سأسهر هناك ، في بيوتهم
وفي بيئتهم التي سلخوها مني “.
” وكيف تسهرين هناك. ماذا لك هناك ؟” ، قلتُ للشجرة المنتفضة.
” قد يكون لي هناك حطبٌ بتروه من ضلعي وضلع أخوتي. من يدري؟ قد أرى بعد أجزائي معلّبة فوق بعضها ومهيئة للحرق ، في محرقة الشتاء القادم ، فأنقذها من نارهم ، أو أحترق معها في الجحيم “.
نظرتُ إلى الشجرة متألماً لحالتها. لا بد أنها مغتاظة جداً من قلة وفاء الإنسان. هي تجمعه مع أحبائه تحت ظلالها ، وهو يقطّع لها أوصالها. هي تصنع من الشمسِ هواءَه المنعش ، وهو يصنع من خشبها فأسه القاتل.
بكل إنسانية نصحتها :
” إهدأي. إهدأي الآن يا عزيزتي. وعودي إلى مكانك. لا بد أن أحداً ما بين الحضور يتغزل بك وبأخوتك الآن”.
قاطعتني كأنها لم تسمع حرفاً من كلامي :
” أنظر إلى العريس. أنظر كيف يتكلم مع العروس لثانية واحدة لا أكثر ثم ، ومثل الحضور الكريم ، يتخذ الوضعية ذاتها.
كلُّ متقوقع في كرسيه. كلٌّ يدير ظهره للآخر.
كلٌّ يحني رأسه إلى الأسفل، يحدّق في شيءٍ ما فوق حضنه”.
” أنه الموبايل أيتها الشجرة الجميلة. أنظري إليهم. أما رأيتهِم كيف يجلسون ، قرب بعضهم ، وفي الوقت ذاته ، بعيدين جداً عن بعضهم. فلا تتألمي. ولا تحزني. هؤلاء الناس ، عن قصد أو دون قصد ، أمسوا مدمني الموبايل. هم أيضاً لم يعودوا يكترثوا لبعضهم بعضاً إلا عبر الشاشات.
الزوج معزول عن زوجته. الأخ عن أخيه. الصديق عن صديقه.
كل فردٍ في العائلة يعيش في دنيا مختلفة عن الآخر.
ليست هذه حالتك أيتها الشجرة المتمردة الحزينة.
القمر أيضاً يعاني . ذاك الذي كان يطل من شرفته كل يوم ليرى الساهرين ويسمع قهقهاته ، ويستمتع بأحاديثم. أين سهراتهم الآن والساهرون قد اختاروا المعلبات الإلكترونية ؟
والعشاق صاروا يتبادلون رسائل الحب بكبسات الأصابع ، لا بنظرات العيون ونبضات القلوب.
تعالي عودي معي. عودي إلى مكانك هناك. عودي إلى أرضك هناك. فإن هذا الإسفلت اللعين لا يليق بك”.
نظرت إليّ الشجرة بعطفٍ ثم همستْ :
” كم جميلٌ أنت أيها الصديق الوفي.
تركتُ الكل ولحقت بي إلى هنا لتعيدني إلى أرضي.
لا بد أن الحبَ والخيرَ ما زال ينبض في الإنسان.
وأنت تحبني فعلاً أيها الإنسان الصادق الصدوق “.
رمقتها بضحكة عطوفة بريئة . ثم اقتربتُ منها وأمسكتها بإحدى يديها . وعدنا أنا وهي مشبوكي الأيدي إلى حفلة العرس.
هي تنظر نحو وجهي وصدري بحنان الأم ومحبة الأرض ، وأنا أنظر نحو جذعها ، شاكراً الله ، وسلك الشريط الطويل ، أن الوصلة الكهربائية التي علقّوها عليه ، وكتبوا فوقها ” شرِّج موبايلك هنا” ، لم يُقطع حين ابتعد الجزع من مكانه.
آه. نسيت أن أخبرّكم. بطارية موبالي كانت قد فرغت قبل لحظات من بدءِ قراءتكم لمقالي هذا.
Discussion about this post