بقلم … أمين الساطي
منذ ثلاث سنوات، كانت المظاهرات في شوارع بيروت ما زالت في بداياتها، لكن الأحوال المعيشية ما زالت مقبولة. في تلك الفترة تخرجت في كلية الهندسة المدنية بالجامعة اللبنانية، وتوظفت لدى مديرية الأشغال العامة بمدينة بيروت. واستمررت بالعيش مع والدي المتقاعد ووالدتي، ولم أكن مسؤولاً عن مصروف البيت. بعد فترة قصيرة أصبح معي سبعة آلاف دولار، فأعطاني هذا المبلغ الصغير الشعور بالثقة في المستقبل، ما شجعني للاستماع إلى نصيحة والدتي، والتقدم لخطبة ابنة خالي هيفاء، التي تقيم مع عائلتها بمدينة عمّان في الأردن.
بعد سنة تزوجتْ ابنة خالي، وانتقلتْ هيفاء لتعيش معنا في الشقة التي يملكها والدي، وكنت محظوظاً لأَني وجدت عروساً توافق على العيش مع حماتها في شقة صغيرة في بيروت، ولعلها رضيت بالوضع على مضض، لقلة الخيارات التي كانت متاحة أمامها. لكن المصائب لا تأتي فرادى على قول شكسبير، فبعد فترة حملت زوجتي، وبدأت علاقتها بحماتها تتدهور بشكل كبير، ولما كانت أحوالي المادية لا تمكنني من استئجار أي سكن في بيروت، فكان الحل الوحيد أمامي هو مسايرة زوجتي، لتوافق على البقاء معي في هذه الشقة اللعينة.
أصرت زوجتي على شراء سيارة صغيرة، لكي نتمكن من الذهاب بمشاوير في يوم الجمعة إلى الجبل والاستمتاع بمناظره الخلابة وجوِّه البارد الجميل، بعيداً عن شقتنا التي باتت كالسجن في عينيها، كما دفعتني الرغبة لامتلاك سيارة للذهاب والعودة من الوظيفة، من دون انتظار جحيم الباصات، الذي أصبح لا يُطاق بهذه الظروف الصعبة. بالنهاية وجدت سيارة ماركة بيجو صغيرة مستعملة وبحالة جيدة، وسعرها أحد عشر ألف دولار، ولما كان كل ما أملكه في ذلك الوقت لا يزيد على سبعة آلاف دولار فكان الحل الوحيد، هو حصول زوجتي من والدها في الأردن على المبلغ المتبقي لثمن السيارة، على أساس أنه دين على رقبتي، وسوف أرده في المستقبل عندما تتحسن أحوالي المادية.
مع الأيام ازدادت الاضطرابات في لبنان، وبدأ يفقد توازنه الهش واتزانه الظاهري، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وأصبح راتبي وراتب تقاعد والدي بالكاد يكفينا لفتح البيت، وأصبحت تكلفة البنزين وتصليح السيارة ودفع التأمين عليها يفوق قدراتي، ففكرت ببيع السيارة لضغط المصاريف إلى الحد الأدنى، لكن زوجتي قاومت هذه الفكرة بشدة، واقترحت عليّ أن أطلب من صديقي المهندس سمير الذي أمرُّ عليه في طريقي لاصطحابه معي إلى المديرية في كل يوم، أن يدفع حصته من ثمن البنزين، في البداية شعرت بالخجل من مفاتحته بالموضوع، لكني بالنهاية وجدت نفسي مضطراً لأخذ مبلغ مقطوع منه تحت اسم بدل مواصلات، لكن الأسعار تابعت ارتفاعها، فطلبت من صديقي سمير أن يتوسط مع المهندسة التي تعمل معنا في المديرية لكي نقوم بتوصيلها يومياً إلى بيتها مقابل مبلغ مقطوع، وبعد مناقشات ومساومات مستفيضة توصلنا معها إلى صفقة مقبولة.
الأمور يبدو أنها ستستمر في التدهور على المدى البعيد، ومصروف البيت وطفلي الصغير لا يعرفان الرحمة، لذلك طلبت من صديقي سمير أن يعرض خدماتنا للتوصيل على المدير المالي، وكالعادة بعد أخذٍ ورد اتفقنا على مبلغ مقطوع، لا يغني ولا يسمن من جوع.
الأمور ما زالت تتدهور في كل يوم، والتضخم في الأسعار ينهش الجميع، فعرضت مرة ثانية على سمير بأن يفاتح مدير الشؤون الإدارية في مديريتنا، بأن نؤمن له المواصلات إلى المديرية، مقابل مبلغ مقطوع أسوة ببقية زملائه، فوافق المدير على ذلك، لكن برزت لنا مشكلة جديدة، فالمدير بدين، وسيارة البيجو بالكاد تتسع في مقعدها الخلفي لثلاثة أشخاص نحيفين وقصار القامة، فما كان من سمير النحيف، إلا أن تبرع بمقعده الأمامي للمدير، ليجلس بالمقعد الخلفي.
كل شيء بالنسبة لي يسير بطريقة معكوسة، وتكلفة المعيشة بارتفاع مستمر، عندما عرض مدير الشؤون الإدارية بأن يستأجر السيارة مني في يوم الجمعة من كل أسبوع، مقابل مئتي دولار شهرياً، وافقت فوراً، إنها رزقة إضافية وقعت من السماء، ولا يمكنني رفضها، قابلت زوجتي هذا الخبر بامتعاض، لأننا تعودنا في أغلب الأحيان على الذهاب إلى الجبل في أيام الجمعة للاسترخاء والفضفضة، ومشاهدة المناظر الطبيعية الساحرة لجبل لبنان، وهو ينحدر بشكل قاسٍ ليلتقي بالبحر البلوري الأزرق، بعد فترة تشجعت المهندسة التي في مجموعتنا، وأخبرتني بأن زوجها يرغب في أن يستأجر السيارة مني، في عطلة يوم السبت مرتين شهرياً مقابل مئة دولار، فوافقت على اقتراحها من دون تردد.
لما عدت إلى البيت، لم أجد بداً من الاعتراف لزوجتي بأنني قد قمت أيضاً بتأجير السيارة في يوم السبت، فقالت لي غاضبة “بأن الحياة قد وصلت إلى نقطة لم تعد تحتمل”، لأنه لم يعد باستطاعتها تمضية كل أيام السبت مع الشلة، على شواطئ مياه البحر الصافية في خليج جونية، فشرحت لها “بأننا صحيح قد قمنا بتأجير السيارة، ولكننا ما زلنا نحمل صك الملكية، ويمكننا في كل لحظة أن نستعيدها ونتوقف عن تأجيرها”، فرسمت ابتسامة غبية ساخرة على وجهها، وكأنها لا تصدق ما أقول، ما أثار غضبي، وأجّج شعور الإحباط المتراكم في أعماقي، فاقترحت عليها أن تسافر إلى بيت والدها في عمان لفترة قصيرة، لتخفيف عبء المصاريف، أو أن تسأل أباها المرتاح مادياً، لكي يعطيني قرضاً بمبلغ عشرين ألف دولار، وسوف أسدده له عندما تتحسن أوضاعي المالية. أصابها الذهول من جوابي القاسي، فتظاهرت بأنها لم تستوعبه، وأجابتني “الله يصبرنا على هذا المقدور”، فأدركت من جملتها، بأنها أصبحت مرغمة على الموافقة.
بعد فترة قصيرة، وفي يوم الجمعة، اتصل معي مدير الشؤون الإدارية بالهاتف، وأخبرني بأنه موقوف بمخفر المصيطبة، لأنه تعرض لحادث اصطدام مع سيارة ثانية، ومن الضروري حضوري فوراً إلى هناك. لما وصلت إلى المخفر تبيّن لي أن صاحبنا قد اصطدم بسيارة مرسيدس رياضية حديثة، وأن تكلفة إصلاحها تزيد على خمسة آلاف دولار، ما عدا إصلاح سيارتي المتضررة، وأن بوليصة التأمين على سيارتي تغطي الحادث فقط، في حال أنني كنت أقودها بنفسي. وفوق ذلك، وبما أنني مالك سيارة البيجو، فعليَّ شخصياً دفع تكاليف
Discussion about this post