أمّك محسونة, زوجة إبراهيم بوراس, هي أوَّل امرأة حرّة وليبيراليّة عرفتها في حياتي. أعرفها منذ كانت في السّتّين من العمر, وحين كانت ماتزال بكامل صحّتها وقوّتها.
كانت تجلس كلَّ اليوم عند مدخل حانوت العطارة الذي ورثته عن زوجها, أفضل من عرفت حومة علي باي, والقيروان كلّها من لاعبي الورق. كان لاعب ورق من طينة فوق بشريّة. وأمّك محسونة هي زوجته. ووريثته.
لم يترك لها غير معزة وحانوت عطريّة بلا ثلاجة ولا ميزان, تبيع فيه الخبز والصّابون والطّماطم المعجونة والجافال والبنّ والشّاي والسّكر وطبعًا الزّيت والفحم وعلب أعواد الثّقاب وقد تجد عندها السّجائر الرّخيصة أيضا في الأوقات التي تتحسّن فيها أحوال تجارتها قليلا.
و ربّما بعض الحلوى أيضًا.
أكثر من ذلك لا يوجد شيء في حانوتها الذي هو في الحقيقة عبارة عن نصف ممرّ بين غرفة نومها والباب الحديديّ للبيت.
كنت أراجع مواد التاريخ والجغرافيا والكيمياء… أسجل ملاحظاتي كلّها في جذاذات صغيرة, وأبقى كامل المساء أدور في حومة علي باي حتى حدود حومة أولاد زايد والجزء الأخير من السّور الجنوبيّ لمقبرة الجناح الأخضر وأنا أردّد:
– أطول نهر في فرنسا.
كم طنًا من الحديد ينتج الاتّحاد السّوفياتيّ.
احتياطي النّفط في الولايات المتّحدة.
تركيبة الزّئبق.
طريقة تذويب الرّصاص.
تصفية المواد الصّلبة عن المواد الليّنة عن طريق التبخّر…
كنتُ أيّامها محراث مراجعة. لا آكلُّ ولا أملُّ… تراني كامل اليوم أدور وأدور وأدور…
أصل إلى حدود الحيّ وأعود إلى مدخل حانوت أمّك محسونة.
تقول لي ضاحكة:
ــ هبّلوكم أولاد المنيّوكة…جعلوا منكم كمشة مجانين يتكلمون وحدهم.
أقول لها:
ــ تاريخ وجغرافيا وكيمياء يا أمي محسونة…بكالوريا خراء.. إدعي لي.
تقول لي:
ــ إيجا أضرب لك نوِيكَهْ من عند أمّك محسونة, ونعلّمك بعدها لعبة البازقة والرِّبّي.. قراية دين أمّك… سيّب عليك من الكلام الفارغ.
أضحك وأتابع طريقي وأنا أخربط بين التّاريخ والجغرافيا… في حين تمتد أمامي خطوط الطّول والعرض بشكل مُربك ومثير…
أمّك محسونة, النّيكه بثلاثمائة فرنك وكيلو السّكر بأربعمائة وخمسين مليم… طول عمرها كريمة وتوفي الميزان…
ناكَها الآباء والأبناء والأحفاد معًا, وفي الزّمن نفسه.
أمّك محسونة بنت سيدي ربّي وأروع امرأة لييبراليّّة عرفتها القيروان…
ما زالت تعيش إلى يومنا هذا… بدون نور البصر وبدون أسنان…
لكن والله, لو ضاقت بك الدّنيا وراودتها عن نفسها, حتى تمسيدا خفيفا و دعكًا باليد, لما قالت لك: لا.
** (كمال العيادي الكينغ) **
Discussion about this post