أيها العام الرّاحل لملمت أوراقك وغادرت كشبح انهكته وعثاء التّرحال…غادرت بعد اندثار أيّامك وتفرّق أوصالك….ثلاثمائـة وخمسـة وسـتون يوماً مضت بساعاتها ودقائقها وثوانيها .. ثقيلة الوطئ كانت ومع ذلك كان بودّي أن أستجير بك وأتوسّل إليك أن تنتظر …إلى أين تمضي بما حملته معك من أجزائنا ..انتظر وأخبرني على الأقلّ بما حملته معك من حكم وعبر فالسفينة توشك على الغرق و لم ترس بعد في مكان آمن ..في مكان محلوم به ليس فيه إلا أنغام الفرح بعيدا عن الأحزان والحطام …رحلت وتركتنا نعاني من لوعة الحاضر و فجعة الخوف من القادم ….خبّرني أيها الراحل .. أين المفر من هذا الخوف الذي يحاصر كل الأمنيات…هل مازال بإمكاننا أن نجرؤ على التّمني بعد ما تراكم فوق رؤوسنا من حطامك وحطام ما سبقك من أعوام..أبعد الإرهاب والوباء وما مرت به بلادنا من أزمات طوّقتها من جميع أطرافها..أبعد ما أريق من دماء الشهداء وما راح من ضحايا الوباء … هل مازال لدينا القدرة على مجابهة محن أخرى..كل التكهّنات وكلّ الأخبار تقول أنّنا مقبلون على كوارث بيئية واجتماعية لا عهد لنا بها ولا خبرة ..كوارث العواصف الشّمسية والبيولوجيّة ويقال أن أقطار زاهية زاهرة من الأرض ستتحول إلى صحاري مقفرة وأننا سوف نتذوق الويلات من قلب الرعب الناجم عن مشاهد الجفاف والفيضانات والحرائق …أيها الرّاحل ..مسكونة بالخوف على بلادي وغاباتها الخضراء وأشجار الباسقة وطيورها المغرّدة..أخاف على جبالها الشّاهقة وسفوحها الممراعة إذا شحّ ماء أنهارها ..يقال أن الأرض سيتحوّل مدارها …يقال أن الآلاف سوف ينهش السّغب أحشاءهم ويموتون… آه أيها العام ..الجوع مدمّر..الجوع كافر والواحد منّا عادة اذا أبطأ موعد غدائه أو عشائه يصاب بالتّوتر ويفقد القدرة على التّركيز ويصاب بضبابية الرؤية أو الدّوار وقد يصبح عدوانيّا فما بالك بهذا النّوع من الجوع الذي يتهدّدنا …الجوع الذي يقال أنه يمزّق الأمعاء و ينهش الأحشاء بأنيابه نهشًا…يقال أنّ ألمه مبرح وعذابه لا يطاق …يقال أنّ من عرفوه وعانوا عذاباته كان الواحد منهم يقضي نحبه بسببه هو وعائلته يسبقونه او يلحقونه ..أين المفرّ من هذا أيها العام ..لا أحد يشعر بآلام الجياع …الغنيّ والحاكم كما نعرف ينعمون بالدفئ فيظنّون أن المقرورين قد دفئوا وينعمون يالشّبع فيتوهّمون أن الجياع شباعى مثلهم وهذا يحوّل القلوب إلى حجارة ويحفر في الصّدور النقمة والحقد ليقود الجياع في النّهاية إلى ارتكاب أفظع الجرائم …سمعت الكثير وقرأت عن القحط وأهوال المجاعة في الأزمان الغابرة.. أيها المغادر قيل أنّها قهّارة فتّاكة ومذلّة ..قيل أنّها تحفر في الصّدور حقدا كيف لا وهي التي كما سمعت أجبرت الممحون بها على الاقتيات بالحشرات والحيوانات القذرة بل قيل ان من أهوالها اقتتال البشر ليتغذى القاتل على لحم المقتول..قرأت كتاب الجحيم ..ملحمة دانتي الخالدة وليتني لم أقرأه بسبب ما أورده في نشيد من أناشيده بخصوص الكونت الكونت أوغولينو الذي حبسه عدوّه فيما يسمّى ببرج الجوع وجوّعه هو وأبناؤه الشيء الّذي جعل أحد هؤلاء الأبناء يتوسّل إليه أن يأكله كي يعيش والده وبقيّة إخوته وفي النهاية مات كلّ الأولاد جوعا وبقي الأب الّذي اضطرّ الى أكل جثث فلذات كبده بسبب الجوع وقد لمّح دانتي لذلك في جحيمه بجملة شهيرة على لسان الكونت …الجوع أقدر من الألم
يقال ان الجوع فيما مضى تسبب في انتشار عصابات آكلي لحوم البشر التي كانت تستدرج الأطفال من منازلهم لذبحهم واقتسام أجسادهم كغنائم لأكلها …ليس الأطفال فقط بل الكبار أيضا فكان الناس لا يخرجون إلا في جماعة لحماية بعضهم من القانصين حتى قيل ان العيشة في الصّحراء بين الكواسر الضارية أصبحت في ذلك الزّمن أكثر أمنًا وطمأنينة منها بين الآدميين الجائعين فالجوع كافر والصّراع من أجل البقاء يطلق العنان للوحش المحبوس داخل الإنسان وحين يتمرد ذلك الوحش لن تنفع معه نصوص القانون ولن يردعه رصاص ولا عصيّ ..أخاف أن ينفلت الأمن في بلادي وتنعدم الطّمأنينة …لقد جرّبنا وعانينا منذ الثورة من ويلات الإرهاب وجرائمه التي أفزعتنا وأرعبتنا …أيها المغادر ..أيامك أيضا لم تكن أيّام عز لكن عشناها وقدرنا على تجاوز محنتها وصارت من الماضي ..الخوف كلّ الخوف من هذا القادم الجديد ..أسمع وقع خطوات الجوع ..أراه كابوسا يزحف على الجبال شبحا بادي العظام بشعر أشعث وعينين مطفأتين يسير بخطى متعثرة ويقضم كلّ ما يعترضه من ضئيل الأعشاب في شق الحجر…يقال أن لا أغلب منه ولا أقهر وأنّ جبروته يطرد الذّئب من الجبل
ردّ الصّدى…صدى العام الرّاحل …لا تجزعي …العام الجديد الّذي أتى بعدي سوف يمضي كما مضيت وكما مضى الّذي قبلي …تخلّصي من هذا الشّحوب الّذي يكتسح لونك من شدّة رعبك ..سوف يسحقك الخوف ..أنتم البشر عادة معاناتكم وخوفكم من الخطر المتوقّع في الخيال أكبر من الخطر في حدّ ذاته وتبالغون في توقّع وطأته قبل وقوعه فلا تحملي همّ الأرض على رأسك وهي تحت أقدامك … المهلكة الأكبر تكمن في هذا الرّعب الذي يكاد يعصف بك …هذا الرّعب الّذي يجعلك أنت وغيرك في حالة انتظار قاتل لكارثة متخيّلة فلا تتوقّعي الأسوء وكوني متفائلة …صحيح أن القحط يقضي على الزّرع والضّرع وأنّ الجوع أسوء ضجيع للإنسان وصحيح أنّ للجوع تاريخ حافل بالمصائب والرّزايا وصحيح أنّ الآدميين عبر العصور عانوا هول آفة المجاعة لكن هذه الأهوال الّتي تحدثت عنها حصلت في الأزمان الغابرة …أزمان متناهية في القدم فكانت المجاعات في قبائل البشر تتفشى لأصغر الأسباب، بل كان وجودها بينهم يكاد يكون مستمرّا …يقال أن المجاعة كانت تعدّ عند الإسرائيليين من الآفات الأهلية ..كان هذا في الماضي وليس في زمن البخار والكهرباء وتقدّم العلم الّذي يعتكف فيه العلماء والمختصّون لابتكار التّقنيات المتجدّدة لمقاومة المجاعة وتلبية الطّلب على الغذاء في العالم ومن الصّعب أن تحلّ هذه الآفات دفعة واحدة في جميع أنحاء الأرض ذلك أنه اذا أمحلت بقعة من الأرض وشحّ المطر فيها أقبل في سواها إضافة إلى تطوّر علم الاقتصاد واتّساع نطاق المواصلات وازدياد حركة التبادل بين أقطار العالم …في العصر الحديث كثيرا ما تعاني بعض الدّول من الأزمات الغذائية وخاصّة منها الفقيرة وليس من المجاعات القديمة في شكلها القارض وإذا استفحلت في مكان ما من في العالم وتعذّرت الإغاثة فهي دون شكّ مفتعلة ونتيجةَ تدابير موضوعة فالجوع في زمن الارهاب الدّولي أصبح صناعة مثله مثل أيّ صناعة أخرى هناك من يستفيد ويكسب منه و تصدير الجوع والحروب والأمراض إلى دول بعينها يفتح بابا من أبواب الرّبح والتجارة لغيره إضافة إلى اعتماد سياسة التّجويع والضرب على وتر لقمة العيش لإذلال الخصم وتطويعه أمّا اذا لم تصدر سياسة التجويع من الخارج فهي دون جدال يكون مصدرها من داخل البلد المنكوب وشحّ الغذاء فيه كثيرا ما يكون سببه الاحتكار من طرف كبار تجار الأسواق المحلّية من أجل تحقيق أفضل الأرباح وهنا تأتي مسؤولية القائمين على حكم البلد المتضرّر وإذا استمرّ الوضع على ماهو عليه دون ردع ومقاومة لهؤلاء فلن ينوب السّلطة الحاكمة غير النّقمة وتفاقم الحقد في صدور النّاس عليها لاعتبارها متواطئة ومسؤولة عن محنتهم .. الظلم الاجتماعي إذا وصل الى درجة التّجويع ليجد الفقراء والمطحونون أنفسهم في طريق مسدود يصبح قنبلة جاهزة للانفجار في أيّ لحظة لتأتي على الأخضر واليابس
Discussion about this post