انتهى آذار سريعًا، وبدا نيسان متربِّصًا بنا، ثقيلًا، ينوي سحبنا نحو الهاوية! خَلَت البلدة من سكانها، واعتكفنا في بيوتنا كقِطعٍ من الأثاث ننتظر في مزاد الموت، من منّا سيودّع الآخر.
أتساءل: متى فقدت قدرتي على النظر في المرآة! أستيقظ فاقدًا ذاكرتي؛ ما الذي اقترفته البارحة وقبلها وقبل سنة؟ وما زلت أقترفه منذ خمسة وستين عامًا. أبحث عن زاويةٍ في دائرة، عن قِبلةٍ في الذاكرة. أقترب من وجهي أتحقق من ملامحي؛ متى فقدته؟ يبدو بلاستيكيًا يعاني من قسوة الصيف.
عينان فاغرتان لا قدرة لي على إغلاقهما، فمٌ تيبّس لا قدرة له على ابتلاع الضجيج، أنفٌ يتنفّس فقط، ولا قدرة لديه على الاحتفاظ برائحة المدن. أتلفت يمينًا ويسارًا فأبصر جيوشًا تتقاتل، وصحفًا يُراق حِبرها أسود، وأقلامًا تكسرّت لا صرير لها. أبحث “عنّي” في هؤلاء الكُثر أنا من دون وجهي مكرر؛ فقدت القدرة على إيجاد الحقيقيِّ، فكيف أجدها “هي”!
كلَّما وقفتُ في شرفتي تذكّرتها. أهاتفها عشرين مرّة، وبعد جهد، ترّد مرَّةً مُتذمِّرة. يا إلهي سجن كبير يحتجزنا عن بعضنا؛ اشتقتُ للقهوة من يد أمِّ العبد. اشتقت إلى طبخات شقيقتي صفية، ومشاغبات أحفادها.
لا ضحايا اليوم غير الشوارع. جميعنا جبناء نسير عليها بأحذيتنا، الأرصفة تعانق أتربة المدينة المتعبة، والحصى يتكسر متألمًا لا يستطيع البوح، وحدها الشوارع تحتضن خطواتنا، تبتلع فضلاتنا، تتشرب رائحة الكره والعشق، وروائح كثيرة خليطًا من الجمال والقبح فقد ملامحه يشبه الأسفلت الأسود عندما يبهت ويتقشّر.
لماذا نبحث عن رفيقٍ يساندنا ونحن محض أعمدة! غرباء نأكل من طبقٍ واحد، غرباء يجمعنا سرير ويفرقنا آخر.
كم قمع سيجارةٍ أطفأته الطريق؟
كم فأرًا وقطةً تبادلوا الحفر في معدتها؟ وكم كلبًا تبوّل دمًا على قارعةٍ جافةٍ من شدة العطش؟!
وكم عامل نظافة نام يقظًا ينتظر وجبةً باردة، الشجر يخلع أوراقه المصفرّة متأهبًا لفصلٍ جديد.
كنت أمشي ولا أشعر بقدميّ تناديان على رجلٍ ضرير: أرجوك انهض، هرول إليّ، لا تنتظر سقوطي، لكنني سقطت.
فلم أجد غير الطريق ومسافاتٍ تشتهي البكاء ولا تستطيع.
Discussion about this post