كتبت عزة كامل / مصر
كانت جميلة وممشوقة القوام، عذبة الكلام، تكبر أمى بأعوام قليلة، لم تنجب، اتخذتنى ابنة لها، إنها جارتنا الآسرة «طنط مريم»، تغرقنى بالهدايا الجميلة، وتصحبنى معها كثيرًا إلى نزهات ومغامرات خاصة، أَحَبها إلى قلبى حضور مولد سيدى «حسن الأنور»، خلف سلخانة مصر القديمة، تقبض على يدى بقوة ونحن نشق طريقنا وسط الزحام حتى نصل إلى شريط ضيق ومتعرج من الحارات المتداخلة، بيوت متهالكة الأحجار، ذات شرفات خشبية عتيقة، نوافذها متآكلة للغاية.
نستمر في المشى حتى نصل إلى حوش واسع نُصبت فيه أكثر من خيمة، ندخل إحدى تلك الخيمات، فتستقبلنا امرأة تجلس على دكة خشبية، وأمامها منضدة نحاسية تتصاعد منها رائحة البخور، المرأة تلبس جلبابًا أبيض متسع الكمين، ومشقوقًا من أحد جوانبه، وتلف رأسها بمنديل أزرق مطرز، شفتاها غليظتان، أجلس بجانب المرأة، وأراقب ما يجرى بفضول ومتعة، أشعر بأنفاس طنط «مريم» والهواء الحار داخل الخيمة يضرب وجهها، فتُخرج من شنطتها جلبابًا رجاليًّا وتلبسه، وتلف رأسها بشال حتى تبدو فيه كأنها رجل، وتنضم إلى كتلة من الرجال المرصوصين بجوار بعضهم، وعيونهم تومض ببريق عنيد، وكأنما باتفاق مسبق أو وفق إشارة خفية، تبدأ الأكتاف المرصوصة بجوار بعضها تهتز بقوة، الأجساد تنطلق وتعلو وتهبط وكأنها أمواج تهب وتطفو، تشتد حركاتها المبهجة، ونسمع شطحات الأجسام المتمايلة في متاهات الغياب.
تلال متموجة ممتزجة بلحم حى، دوامات متسارعة الإيقاع، وتنهدات تتطاير مزقًا في الهواء، وعيون غائمة محمولة على أجنحة غير مرئية وكأنها منفصلة عن الجسد الذي يحملها، دقات الطبول تفض بكارة الصمت المهيب وتعطى قبلة الحياة لأجسام هزيلة وممصوصة تكاد تهوى من فرط هشاشتها، وأرواح مسكونة، وقلوب مبللة بوجد مكبوح.
تبدأ بطيئة ثم تتسارع وتتلاحق معها دقات الكفوف على الصدور، تقودهم طنط مريم بصوت جهورى وهى تهز رأسها وذقنها: «أنا العاشق والمعشوق والعشق واحد»، والكل يردد خلفها: «الله.. الله.. الله»، «أنا السحاب والمطر»، «الله.. الله.. الله»، يشتد البكاء والنشيج بصوت واضح ومؤثر، ويقومون بإلقاء العمائم، وتقف طنط «مريم» لتقودهم بمهارة في رقصة «التدويم»، وهم يديرون رؤوسهم يمينًا ويسارًا، فتسقط الأجساد متهالكة على الأرض، تدور صوانى القهوة على كل الذاكرين، تُخرج طنط مريم من جيبها سيجارة، وتُشعلها، ثم تدخنها، وفى أحد الأعوام لم تأخذنى معها، فقد علمت من أمى أنها خرجت، ولم تعد إلى منزلها أبدًا، فقد ندهتها ندّاهة الموالد،
وأخذتها معها.
Discussion about this post